في الحاجة إلى مراجعة الدستور الحالي

بقلم : محمد إنفي

لم أكن أتصور وأنا أتناول،عَرَضا (في مقال بعنوان ” كلام في الديمقراطية أو دفاعا عن المؤسسات”، جريدة “الاتحاد اشتراكي”، الأربعاء 8 أبريل 2015) الجدل السياسي والنقاش الذي أعقب المذكرة التحكيمية التي وجهتها أحزاب المعارضة المؤسساتية إلى الديوان الملكي، أن التساؤل الذي طرحته ، وأنا أتطرق إلى الوضع السياسي الحالي، حول ما إذا كان هناك مدعاة للتفكير في المطالبة بإصلاحات دستورية، أقول لم أكن أتصور أن الأمر بهذا الاستعجال وهذه الملحاحية التي بدت لي وأنا أتتبع البرنامج التلفزيوني الشهير”مباشرة معكم” (يوم الأربعاء 8 أبريل 2015) الذي تبثه القناة الثانية والذي كان موضوعه: “مستجدات الساحة السياسية: أي تحليل؟”.

وتجدر الإشارة إلى أن المستجدات السياسية المقصودة، هي الرسالة التحكيمية المشار إليها في الفقرة أعلا.  وقد عكست التحليلات المقدمة خلال ذلك البرنامج نفس المواقف المتناقضة التي سبق أن سجلتها (في المقال المذكور آنفا) حول التحاليل الإعلامية التي إما قللت من قيمة المبادرة وأدخلتها في منطق التشكي والتعبير عن الضعف، وإما رفعت من قيمتها وأضفت عليها طابع القوة لكون هاجسها الأساسي هو صيانة الدستور والدفاع عن المؤسسات.

ونظرا لطبيعة البرنامج وصيته وأهمية موضوع الحلقة؛ واعتبارا لصفة الأشخاص المدعوين لهذا البرنامج الحواري وتمثيليتهم (ممثلان عن أحزاب الأغلبية وممثلان عن أحزاب المعارضة البرلمانية وممثلة عن أحزاب إتلاف اليسار وأستاذ باحث في العلوم السياسية)؛ ونظرا للمنحى الذي سار فيه النقاش الذي اعتمد فيه كل طرف على فهمه الخاص لما ورد في النص الدستوري؛ واعتبارا لكون الدستور هو القانون الأسمى للدولة (أي الوثيقة التي لها الأولوية على ما عداها من الوثائق؛ بل ويُقضى ببطلان كل وثيقة تتعارض معها؛ مما يعني ضرورة الدقة والوضوح في المعنيين اللغوي والاصطلاحي، المفترضين في كل صيغة قانونية)؛ لكل هذا وغيره، أرى، شخصيا، أننا في حاجة إلى تعديل دستوري يجنبنا المزالق السياسية والتأويلات المصلحية أو المضللة والقراءات المتهافتة والاستنتاجات الخاطئة، الخ.

وقد ذكرني البرنامج المشار إليه أعلاه في بعض القراءات للنص الدستوري الجديد، التي قُدمت في لقاءات إشعاعية، نظمت من طرف هيئات سياسية (ومن المعلوم أن الأحزاب التقدمية والديمقراطية، هي وحدها التي تحمل هذا الهم) وحقوقية، أطرها فاعلون سياسيون وأساتذة باحثون في العلوم السياسية. ومن الملاحظات التي لا زالت عالقة بذاكرتي، هي أن الدستور الجديد، رغم ما سجله من تقدم ملموس، مقارنة مع الدساتير السابقة، فإنه يتسم، في عدد من بنوده، بالغموض واللبس.وهذا يهدد، بالطبع وبالضرورة، النفحة الديمقراطية الموجودة في نصه وروحه؛ إذ يسهل، عن طريق التأويل السلبي للنص، ضرب المكتسبات والتراجع عنها. ويصبح، بالتالي، بسبب غياب الدقة في التعبير، متاحا أمام اليد اليسرى للسطو على ما قدمته اليد اليمنى.

ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري التركيز على بعض التفصيلات قدر الإمكان من أجل منع الاختلاف عند التطبيق؛ خاصة وأن التطبيق هو المحك الحقيقي لكل نص كيفما كان مجاله. و”الواقعة” التي نحن بصددها (مذكرة أحزاب المعارضة) أبانت ذلك بوضوح. فقد أسال طلب التحكيم الملكي كثيرا من المداد وأطلق العنان لكثير من الألسن، كل من موقعه وكل حسب فهمه الخاص أو حسب مصلحته أو مصلحة الجهة التي ينتمي إليها. وهذا أمر، إن كان مقبولا في النقاش الفكري والجدل الإعلامي والصراع السياسي…، فهو غير محمود في الأمور المصيرية أو في شأن ثابت من ثوابت الأمة؛ ومن هذه الثوابت، الاختيار الديمقراطي الذي يجب أن يصان من كل عبث قد يلحقه من هذه الجهة أو تلك.

وحتى نبقى قريبين من موضوع البرنامج التلفزيوني، نشير إلى أن الخلاف الذي ظهر جليا حول مفهوم المؤسسة، يبرز بوضوح مدى الحاجة إلى التدقيق في المفاهيم تجنبا للخلط والتغليط؛ خصوصا وأن التأويل الإيجابي، أي المُعزِّز للبناء الديمقراطي، قد أصبح عزيزا مع حكومة بنكيران ومع جزء مهم من النخبة الحالية التي تبدو إما ضيقة الأفق، أو محترفة للتضليل والمغالطة. وهذا ما يلقي على عاتق “المشرِّع” المسؤولية في رفع اللبس عن المصطلحات والمفاهيم- خصوصا فيما يتعلق بالفصول التي لا يتطلب تطبيقها إصدار  قوانين تنظيمية-  من أجل قطع الطريق أمام كل تحريف لأهداف المشرِّع، وحتى يعرف كل طرف حدود ومجال تحركه ويميز بين ما هو مسموح به وما هو غير جائز القيام به.

كنا نأمل أن يسود التأويل الإيجابي للوثيقة الدستورية؛ وكنا نطمح أن تدافع النخبة السياسية والإعلامية والحقوقية والجامعية… عن هذا المنحى، خصوصا وأن ملك البلاد، باعتباره رئيسا للدولة والساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية، قد أعطى أمثلة في هذا الاتجاه. فدستوريا، لا شيء يلزم الملك بتعيين الأمين العام للحزب المتصدر لنتائج الانتخابات التشريعية، رئيسا للحكومة. فقد كان بإمكانه، حسب النص الدستوري، أن يختار شخصية أخرى من حزب العدالة والتنمية، بدل الأمين العام لهذا الحزب. لكنه فضل التأويل الديمقراطي للدستور عوض التقيد الحرفي بالنص.

فهل فهم السيد “بنكيران” هذه الإشارة؟ وهل له استعداد للرقي بالممارسة الديمقراطية؟ وهل يحرس على حرمة المؤسسات واحترام اختصاصاتها؟ وهل يمثل عنده تفعيل الدستور أولوية؟…؟ كل المؤشرات تدل على عكس ذلك. ومذكرة المعارضة، المطالبة بالتحكيم الملكي، بغض النظر عن صيغتها ومرجعيتها والجدل القائم حولها، خير دليل على ذلك. وفي الاستجابة الفورية للملك ومعاملة المؤسستين (رئاسة الحكومة والمعارضة) على قدم المساواة (تكليف مستشارين بمباشرة الملف مع المعارضة ومع رئيس الحكومة، كل على حدة)، إشارة أخرى في اتجاه التأويل الإيجابي للدستور وتكريس التوجه المؤسساتي.

وإذا أضفنا، إلى ما سبق، كون الملك أمر وزير العدل والحريات بتجنب متابعة أي شخص يتحدث فيه بسوء، مع أنه “رئيس الدولة ، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة…”، فإننا لا نملك سوى أن نعبر عن اندهاشنا مما نلمسه عند النخبة السياسية والإعلامية والجامعية… (أو على الأقل، عند  جزء منها) من نزوع نحو الحرفية النصية ونحو السطحية المفاهيمية ونحو التبخيس الممنهج للعمل السياسي والمؤسساتي؛ الشيء الذي يقوي النزوع الاستبدادي والاستحواذي (والتضليلي) المرسخ في سلوك رئيس الحكومة ووزراء الحزب الأغلبي: أليس في مسودة المسطرة الجنائية المثيرة لكثير من الجدل، ما يكفي من مؤشرات النكوص والشد إلى الخلف؟ وهل  نحتاج أن نذكر بسلوك السيد “الشوباني” مع المجتمع المدني أو بسلوك الأستاذ “الرميد” مع مكونات منظومة العدالة؟ وهل نحتاج إلى التذكير بسعي “بنكيران” إلى الجمع بين السلطة والعارضة؟ وهل…؟ وهل…؟

يبدو لي، حسب فهمي المتواضع والبعيد كل البعد عن لغة الاختصاص، أن أهم إصلاح يجب أن يعرفه دستور فاتح يوليوز 2011، إلى جانب ما قد يكون سجله المهتمون من نواقص في النص الحالي، هو التدقيق في مفهوم المؤسسة وتحديد صلاحيات ومهام كل واحدة منها على حدة، بما فيها مكوناتها والاختصاصات المسندة إليها. فلا يعقل، مثلا، الحديث عن البرلمان كمؤسسة وحرمان أحد مكوناته الأساسية (ألا وهي المعارضة) من هذه الصفة بدعوى أنها لا ترقى إلى هذا المستوى. ومهما يكن لبعض القراءات (وأستثني، هنا، المحكمة الدستورية التي تهتم، من بين ما تهتم به، بمطابقة القوانين للدستور) من وجاهة وتلاؤم مع النص الحالي للدستور، فإن تعزيز البناء الديمقراطي يتطلب المزيد من المكتسبات ويقتضي تحصين المؤسسات ضد الهشاشة المفهومية وضد القصور البنائي والتصوري.

بالإضافة إلى هذا الجانب الذي لا يخلو من أهمية، على الأقل من حيث تجويد النص الدستوري، صياغة وتركيبا، أُذكِّر بمقترحين قدمتهما في مقالي الذي أشرت إليه في الفقرة الأولى من هذه السطور؛ ويتعلق الأمر بإيجاد مؤسسة وسيطة بين رئيس الدولة (باعتباره الحكم الأسمى بين كل المؤسسات) ورئيس الحكومة (باعتباره المسؤول عن تدبير الشأن العام لولاية محددة دستوريا وخاضعا، خلالها، لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة)، يكون من مهامها الفصل في النزعات أو الخلافات التي تحدث بين الحكومة والمعارضة، وكذا الفصل في التجاوزات التي قد يقترفها أحدهما (قياسا على المحكمة الدستورية التي يُلجأ إليها فيما يتعلق بدستورية القوانين من عدمها).

أما المقترح الثاني، فيتعلق بدسترة وظيفة المستشار الملكي. فمستشارو الملك جزء من المؤسسة الملكية ويضطلعون بأدوار مؤسساتية هامة؛ لكن الوثيقة الدستورية لا تشير إليهم ولا لمهامهم. ونعتقد أنه من الأفيد التنصيص على هذه المهام ولو في إطار قانون تنظيمي خاص.

وقبل ختم هذه المساهمة المتواضعة في النقاش الذي استتبعته مذكرة أحزاب المعارضة، أود، من جهة، توجيه نداء إلى أهل الاختصاص وإلى قيادات الأحزاب الديمقراطية من أجل الانكباب على الدستور الحالي بهدف المطالبة بتعديل بعض فصوله التي قد تحتوي على ما يعيق التطور الديمقراطي المنشود في أفق الملكية البرلمانية القائمة على فصل حقيقي للسلط وعلى تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ ومن جهة أخرى، إبداء الاستغراب من إقحام مذكرة الكتلة الديمقراطية من قبل بعض المساهمين في برنامج “مباشرة معكم” للمقارنة بينها وبين مذكرة أحزاب المعارضة البرلمانية؛ والحال أن لا مجال للمقارنة بين المذكرتين لا من حيث الدوافع ولا من حيث الأهداف والمضامين. فمذكرة الكتلة هي للمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية، بينما مذكرة أحزاب المعارضة هي طلب للتحكيم؛ وشتان بين الأمرين. فما الهدف من هذا الإقحام، إذن؟

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد