الإعلام العمومي و الانتقال الديمقراطي عربيا
بقلم : عبد الصمد بنشريف
يبدو أن المنافسة الإعلامية الشرسة والولادة السريعة لمئات الفضائيات، جعلت المشاهد العربي أمام عدة اختيارات، دون أن يخضع لتوجيه أو رقابة،وهو ما يقوي مصداقية وشرعية تطبيق مخطط إصلاحي مدروس يستند على أهداف واضحة ودقيقة .لتحصين هذا المشاهد من الاختراقات الفكرية والمذهبية المحرضة والمشجعة على الغلو والانغلاق والاحتراب العقائدي .
من المؤكد أن الحقل السياسي في عدد من الدول العربية التي شهدت وتشهد رجات وديناميات متفاوتة النتائج ، بات يواجه جملة من التحديات ، أقلها محدودية المشاركة السياسية و انتشار رقعة العزوف الانتخابي. وأمام هذه المظاهر غير المشجعة على استتباب الديمقراطية واستقرار المؤسسات، ظهرت اجتهادات كثيرة لفهم الظاهرة وتجاوزها، غير أن مجمل تلك الاجتهادات أغفلت مشكلة الإعلام والتواصل، وقفزت فوق الدور الحيوي المنوط بوسائل الإعلام العمومية في صناعة وتشكيل رأي عام وطني فعال وعقلاني ومبادر .
فحينما يشيح المواطن بوجهه عن رجل السياسة، فإنه يؤكد لا مبالاته بمجمل القضايا الوطنية التي يفترض أن لذلك السياسي “عرضا” بخصوصها يقدمه للمواطنين.فضلا عن أزمة القراءة التي أصبحت تشكل معضلة حقيقية تهدد المجتمعات العربية باجتثاث قيم التفكير العلمي و النقاش العقلاني والإبداع الحر ، بما في ذلك الصحافة المكتوبة، حيث أضحت هذه الأخيرة تعاني من مشاكل بنيوية تؤثر قطعا على مضمونها، مضمون أصبحت فيه هوامش السياسة وأخبار الجرائم والمواضيع التي تنطوي على جرعة عالية من الإثارة تتصدر الصفحات الأولى للجرائد بشكل يدفع المواطنين إلى المزيد من النفور من العمل السياسي ،ومن التعاطي الايجابي مع الصحافة المكتوبة ومع فعل القراءة باعتباره سلوكا حضاريا ومدنيا راقيا ، علاوة على غياب سيولة المعلومة والتدهور بين الحين والآخر لحرية التعبير. وهذه كلها عوامل تؤدي إلى تسطيح النقاش العمومي على صفحات الجرائد ، في الوقت الذي يلاحظ فيه أن معظم القنوات والإذاعات العمومية في المنطقة العربية تحرص على الحفاظ على الطابع الرسمي ،مما يحول دون تقديمها لخدمة عمومية واستحالة اكتسابها لصفة المرفق العمومي .فهي تعنى بما هو رسمي بشكل مفرط على حساب القرب من المواطنين. أما التلفزيونات والإذاعات الخاصة فيبدو أن الهواجس التجارية فرضت عليها الابتعاد عن قضايا السياسة والمجال العمومي لحساب الترفيه.وفي أحسن الأحوال انخراطها في نمط إعلامي هجين بدون هوية وقابل للتغير والتحول حسب السياقات وموازين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية
مما لا شك فيه أن هذه الأحكام نسبية وغير مطلقة لكن تتقاسمها العديد من مكونات المجتمع العربي ،خاصة الطبقة السياسية والنخب الثقافية والنسيج المدني الفاعل، وقد لا ترقى لمستوى الدراسات والإحصائيات العلمية الدقيقة، وهو ما يحتم التفكير في إنجاز استطلاعات للرأي في الموضوع، غير أن مجريات الأحداث تؤكد هذه الأحكام ،كلما طفا على السطح موضوع من مواضيع النقاش والسجال العمومي ،حيث تخدم بعض وسائل الإعلام الخاصة جهات على حساب أخرى، والقنوات والإذاعات الرسمية إذا لم تحشر أنفها في موضوع يمتلك راهنيته وطراوته ،فإنها تتغاضى عن الأمر بشكل نهائي، اللهم إلا ما تعلق بعكس وجهة النظر “الرسمية”.
وهذا ما يبرر بقوة الحاجة الملحة لإعلام سمعي بصري عمومي في الدول العربية ينصب على جوهر السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.إعلام يخاطب ضمير المواطن المعرض لأخطر أنواع الاستلاب في ظل طغيان قيم الشعبوية واللاعقلانية والتهريب الديني والروحي والهوياتي . كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة غير هينة من القنوات الفضائية التي تسوق خطابات لا تنتمي مطلقا إلى القرن الواحد والعشرين ولا تعكس القيم المتنورة والمشرقة التي أثثت الحضارة والثقافة العربية والإسلامية،بما في ذلك الاجتهاد الديني و الفكر المقاصدي ،خاصة وان هذه القنوات تولت مهمة صناعة وصياغة جزءمن الرأي العام العربي والإسلامي .
في ظل هذا المشهد الملتبس ،تبدو الضرورة عاجلة لقنوات تتمتع بقدر أوسع من هامش الحرية والمبادرة والإبداع والاستقلالية
.هناك طبعا مخاوف أمنية من حرية التعبير، لكن هذه المخاوف تتناقض مع المبادئ والتطلعات الديمقراطية المشروعة التي تراود عددا من المجتمعات في منطقتنا . وبعض الانزلاقات المهنية لا يجب أن تتحول إلى مبرر لتسويغ هذه المخاوف التي تنطوي على مخاطر كبرى.
ذلك أن قمع الحرية بمبررات أمنية يعني عدم الصراحة وعدم الثقة واستمرار نفس المشاكل التي أدت إلى العزوف الإعلامي والثقافي والسياسي ،مع ما يتضمنه ذلك من احتمالات عدم الاستقرار في ظل تنامي الشعبوية والتطرف والانغلاق و استمرار الفقر وعدم تكافؤ الفرص وسوء توزيع الثروة.
ليس هناك أفضل من قنوات تلفزيونية وإذاعات عمومية تركز مضمونها على مشاكل الوطن والمواطنين وتفتح نقاش حولها بهدف تجاوزها، وتعبئة المواطنين للانخراط في العمل السياسي والثقافي والمدني والرفع من مستوى الوعي العمومي بمهنية واستنادا إلى منهجية بيداغوجية تعليمية.
يتعلق الأمر بتقليص حجم السياسة بمعناها التقليدي ” أي الأشخاص والمؤسسات الحزبية والكواليس” لصالح السياسة بمعناها الخدماتي، أي ترجيح الخيار التنموي التنموي وتحديات الانتقال الديمقراطي ومشاريع الحكومات وملاحظات الكتل البرلمانية وخروقات حقوق الإنسان وتسيير المؤسسات العمومية والسياسات الاقتصادية والمالية للدولة وعلاقاتها الخارجية.
حيث لا يمكن للمواطن أن يبدي أدنى اهتمام بالسياسة والسياسات العمومية و والانشغال بالقضايا الوطنية والدولية إلا إذا أحس بالفعل أن حياته اليومية تتجلى حتما في ما يصدر عن فضاءات البرلمان والحكومة والمجالس المنتخبة ومؤسسات الدولة من قرارات وما يسبقها من نقاشات ومداولات.
ومن خلال رصد التداعيات السياسية والإعلامية والثقافية والسوسيولوجية للحالتين التونسية والمصرية يلاحظ إنهما أنتجتا العديد من التأثيرات على التلفزات الوطنية الرسمية وحتى الخاصة المملوكة لشركات بعض رجال الأعمال في البلدين .
وأدت هاتين الحالتين إلى تراجع تأثير بعض الفضائيات الإخبارية العربية التي كانت تتمتع بنسبة مشاهدة عالية ،ويعزى هذا التراجع إلى تنامى الطلب على برامج النقاش لسياسي لدى قطاعات واسعة ورغبتها في مشاهدة الجدالات والسجالات حول قضايا المرحلة الانتقالية.
ومما لاشك أن الغموض الذي اكتنف المراحل الانتقالية ،والاحتقانات والانفلاتات التي صاحبتها ،وكيفية تدبير الشأن العام ،وغياب الرؤية الواضحة للبرامج والمشاريع الحكومية ،دفع قطاعات اجتماعية عريضة في دول كثيرة إلى البحث عن بدائل إعلامية، تمثلت في جزء منها في الفضائيات المملوكة لبعض رجال الأعمال بأجندة سياسية ، و التي تركز في برامجها الحوارية ومقابلاتها ونشراتها الإخبارية على الأوضاع السائدة ، سعيا منها صدقا أو افتراء إلى فهم وقائع مايجري على الساحة السياسية ومن ثم ازداد حضور هذه القنوات في الحياة اليومية للمواطنين كما هو الشأن في مصر،حيث أثرت على بعض توجهاتهم في ظل موجة نقاش سياسي عارم .
من البديهي أن ضعف المشهد السياسي وهشاشة الديمقراطية، أديا إلى تزايد الطلب الاجتماعي على البرامج الحوارية السياسية والاجتماعية ومتابعة الأخبار والتعليقات،خاصة في ظل بنى سياسية يستعصي عليها الانفتاح ،ينضاف إليها تراجع الأداء المهني لقنوات وإذاعات الإعلام الرسمي الذي لايزال يخضع لتوجهات وتوجيهات السلطة الحاكمة في عدد من الدول العربية.
مقال الرأي يُنشر باتفاق مع الكاتب.
نُشر عام 2011.