زنقة 20 . متابعة
رغم شمس بلاد المغرب الخلابة، إلا أن قليل من شعبها لم يشعر بجمالها، فالشمس لا تذكره بشيء جميل أبدًا، بل تذكره بأقبح ما يمكن أن يتخيله، الموت، فالشمس تزيدهم عطشًا على عطش، وبطونهم تعتصر نفسها ولا تجد ما تتغذى عليه، مجاعة وجفاف وانهيار اقتصادي تام، كان العام 1134 والمغرب تعيش حالة مذرية.
بيوت الأغنياء خاوية، والأبواب مغلقة، وتعداد السكان يتناقص بمعدل سريع، من لم يأكله وحش الجوع جلس ينتظر دوره أو يبحث عن حل.
كانت السنوات تمر والمآساة في تفاقم مستمر، كما جاء في كتاب Society and Economy in Egypt and the Eastern Mediterranean، 1600-1900. ومع اقتراب نهاية القرن الثاني عشر كان الوضع قد وصل ذروته في مدينتي فاس ومكناس، رائحة الموت تزكم الأنوف، ثلثي بيوت المدينتين أصبحت خاوية على عروشها بعدما قبض ملك الموت أرواح أصحابها، أما الثلث المتبقي فقرر أن يرحل عن بلاده بحثًا عن بضعة أنفاس آخرى في الحياة الدنيا، فشد الأحياء في المدينتين الرحال إلى بلاد الشرق، ومنها مصر.
كانت مصر، في ذات الحقبة الزمنية، تستقبل مغاربة آخرين، هؤلاء المتجهين إلى أرض الحجاز للحج أو العائدين منه، كان لابد أن يعبروا عبر الأراضي المصرية، تلك التي استهوتهم إما للتجارة أو التعليم، ليقرروا أن يمددوا إقامتهم بها، وكان بعضهم سعيد الحظ بوجود قريب له سبقه في الاستقرار على أرض المحروسة. ساعد التجار المصريون المغاربة في الدخول إلى عالم التجارة، حينما كانت تصل وفود الحجاج إلى القاهرة، كانوا يقابلونهم ويبرمون معهم صفقات.
كان المصريون يزودونهم ببضائع لبيعها في بلاد الحجاز، ومع الوقت وجد المغاربة أنهم أصبحوا منخرطين في التجارة المصرية المربحة، كان البقاء هو الخيار الأفضل، فالقاهرة هي ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية بعد اسطنبول كما أن تجارتها كانت واسعة ومنتشرة، وكان المكسب فيها أكثر بكثير مما يمكن أن يتحقق في المغرب.
انتشرت الأخبار في المغرب سريعًا، «مصر بلاد الأحلام.. حيث المكسب الوفير والترحاب الشديد»، أما بالنسبة للعادات فما أشبه ما وجدوه مقارنة بعيشتهم في المغرب، فالعادات كانت قريبة جدًا واللغة أيضًا، المؤسسات والمساجد، حتى الحمامات الشعبية، أي سهولة في التأقلم كانت للمغاربة بين أبناء مصر.
مرت القرون، المغرب في القرن الثامن عشر تعيش سنوات حكم السلطان مولاي إسماعيل، سنوات صبغت بلون الدم الأحمر، فقد قضى السلطان الفترة الأولى من حكمه في قمع الحركات الانفصالية بإراقة حمامات من الدم، خاصة في فاس.
كانت فاس من المدن التي تشهد كثيرًا من الاحتجاجات والحركات الثورية، وكان مولاي إسماعيل يرد على ذلك بمصادرة أملاك أكبر تجارها، وأموال أبناءها، فصادر أملاك أشهر تجار فاس، أولاد جسوس، قبل أن يعيدوا بناء تجارتهم في القاهرة لاحقًا، كما أرسل جيشًا إلى فاس ليجمع أموال المواطنين.
كانت سحابة سوداء جديدة تحل على فاس بعد مآساة المجاعة والجفاف، ورحل الناس عن المدينة ولم يتبقى بها ثري واحد. انت فترة مولاي إسماعيل عصيبة على بلاد المغرب «كان وقت إذا خرج أحدهم من مدينته قتله، حتى لو ابنه، ستصادر ثروته، حتى وإن كان من تابعيه، معظم شعبه هاجر لبلدان آخرى، معظمهم ذهب إلى الحجاز وبلاد الشام ومصر»، كما يقول المؤرخ المصري أحمد شلبي عبدالغني.
ووسط أهالي القاهرة وبضع محافظات آخري استقر المغاربة الهاربين من الموت بفعل مجاعة وجفاف أو المصير ذاته على يد حاكم ظالم، بشطارتهم بنوا إمبراطوريات في عالم التجارة، أما عائلاتهم فاستمر بعضهم في مصر حتى بعد وفاة المهاجرين الأوائل ليتمصروا ويصبحوا أبناء هذه الأرض، تلك العائلات قد تجد بين أسمائها، التي سجلتها «القسمة العسكرية» أو «القسمة العربية» في سجلاتها بمحكمتي «باب علي» و«طولون»،قد يندهش اي مصري حين يعرف أن أصوله مغربية أو أن صديقه المقرب أصله من فاس، فمن بين أشهر الأسماء التي قد تميزها بين أسماء العائلات المغربية التي هاجرت إلى مصر اسم كعائلة «برادة» وكذلك عائلة «العلمي»، وكذلك عائلة «لحلو»، و«القصري».