أخطاء الإسلاميين في مسألة الحكم
بقلم : الشيخ عبد الغني العمري الحسني
إن الإسلاميين الذين يُغلّبون القراءة السياسية للدين، قد بنوا تصوراتهم على أسس غير ممحصة، أدت إلى تعسُّر المعاملة فيما بينهم وبين حكامهم وشعوبهم جميعا، إلى حدٍّ ما عاد يخدم إلا أعداء الدين. والعجيب، هو أن الإسلاميين يتصرفون وكأنهم على يقين تام من سلامة “طروحاتهم”؛ حتى أقنعوا بذلك المـُوالي لهم والمعارض. اقتنع الموالي أنه باتباعهم، لا يمكن أن يكون إلا على صحيح الدين؛ واقتنع المعارض بأن الدين هو ما هم عليه، ولم يخطر بباله أنهم قد يكونون على خلافه. ونحن سنبيّن في هذه العجالة، بعض الأسس المغلوطة، التي يبنون عليها فكرهم؛ عسى أن يتنبهوا، ويعودوا إلى الجادة.
1. يعتقد الإسلاميون أن تغيير أنظمة الحكم واجب، من أجل إقامة الخلافة. والحقيقة أن حكمهم (الإسلاميين) لن يكون خلافة، وإن تغير النظام، وحُكم فيه بالشريعة بحسب زعمهم. أولا، لأن الخلافة لها شرط باطن، يفتقدونه من أنفسهم؛ بل ولا علم لهم به من الأصل. وثانيا، لأنهم سيحكمون بالشريعة بحسب إدراكهم لها، لا بحسبها حقيقة. نعني من هذا، أن نظام الحكم الذي سيقيمه الإسلاميون إن هم حكموا، سيكون مُلكا بحسب التعريف الشرعي لا خلافة. واستبدال ملك بملك، مع تعريض الأمة لشرور كثيرة في سبيل ذلك، هو من التدليس، والعمل بمقتضى الأهواء فحسب؛ مع ما في ذلك من توهين للأمة، بصرف جُهدها فيما لا نفع منه.
2. إن خليفة آخر الزمان، قد وردت بذكره الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بما لا يدع مجالا لأن يتطفل على هذا المنصب أحد من الناس؛ وليس إلا المهدي. فلم يبق أمام الإسلاميين، إلا أن يكونوا كأولئك الحمقى الذين، يظهر منهم الواحد بعد الآخر في هذه الأمة، يزعم كلٌّ منهم أنه المهدي. وعلى هذا، فإن كل حكم قبل خلافة المهدي، سيكون ملكا؛ سواء أتولاه إسلاميون أم غيرهم.
3. إن اعتماد الإسلاميين للآليات الديموقراطية، من أجل بلوغ الحكم، هو عمل مخالف لأصول الدين في هذا المجال. ذلك لأن الشرع لم يُجز للعوام الدخول في أمر اختيار الحاكم، وإن جعل البيعة عامة؛ وإنما أعطى حق ذلك، للنخبة من الأمة، التي ينبغي أن تكون على تقوى وعلم مخصوصيْن. وفي غياب هذا الشرط، كان ينبغي على الإسلاميين، أن لا يُصرّوا على الالتزام بما تعطيه الانتخابات، وكأن نتائجها عادت من واجبات الدين. ونحن لا نرى الزج بالعوام في العمل السياسي، إلا مخالفا لأصول الشريعة، ودخولا في تشعيبات الفتنة التي يمتاز بها آخر الزمان. ولسنا هنا نناقش الديموقراطيين من العلمانيين؛ وإنما كلامنا للإسلاميين وحدهم، بحسب المنطق الشرعي الخاص.
4. إن الإسلاميين يوهمون الشعوب، بتحقق حكم الإسلام لهم حتما، إن هم وصلوا إلى الحكم. والحق أن الإسلام شيء، والإسلاميين شيء آخر. وهم عندما يحكمون، سيحكمون بما في أنفسهم من خير وشر؛ من استقامة وانحراف. ذلك لأنهم ليسوا عند الله خلفاء، وإن كانوا سيتسمّون بالخلافة، كما فعل بغدادي داعش. وهنا ستصاب الشعوب بخيبة، قد تجعلها تشك في دينها. ولو كان الإسلاميون صادقين في دعواهم إرادة الخير، لتريثوا مليا، حتى لا يتسببوا في نفور الناس من الدين، الذي قد يصل ببعضهم إلى الإلحاد؛ كما حدث لطائفة من شباب مصر، بعد فشل الإخوان.
5. إن معاداة الإسلاميين للحكام، ليست شرعية؛ ما داموا يطمعون هم أن يصلوا إلى الحكم؛ لأن الطامع غير مأمون ولا موثوق. وكان الأولى بهم العمل للتحقق بالدين في أنفسهم، ليتمكنوا من إيصاله إلى الناس فيما بعد، نقيا طريا. هذا إن كانت الغاية عندهم عودة الناس إلى الدين عودة سليمة. لكنّ الواقع يُظهر أنهم لا يكترثون لهذا كثيرا، ويقبلون من المرء أدنى مستوى من التديّن، بشرط قبوله بالغاية السياسية التي لهم. وهذا ليس من الدين في شيء؛ بل هو من النفاق وعمى البصيرة. وكان الأوْلى بهم، لو كانوا على دين حقيق، أن ينصحوا للحكام، بدل مزاحمتهم؛ ما دام الزمن ليس زمن خلافة. ونحن لا نظن، أن أحدا من حكام المسلمين، مهما بلغ طغيانه وفساده، سيرفض النصيحة، ولو ظاهرا. وهذا القدر كاف، في الإبقاء على سلامة المعاملة بين الحكام وبينهم، لو كانوا يعقلون. وأما العمل بالنصيحة وعدمُه، فليس من شأن أحد أن يحاسب الحاكم عليه؛ لأنه يدخل في معاملته لربه قبل معاملة العباد. وقد يكون للحاكم من العلم في أمر ما، ما ليس لغيره، وإن كان هذا الغير يتوهم أنه أعلم بشؤون الدين والدنيا. نعني من هذا، أن الإسلاميين عليهم واجب النصح، لا إكراه الحاكم على ما لا يريد. وقد ظهر أنهم لا يختلفون عن سواهم في شيء، عندما يعتلون كراسي الحكم؛ كما حدث ذلك مع حكم الإخوان في مصر، ومع تولي حزب العدالة والتنمية في المغرب لرئاسة الحكومة. لقد ظهر من التجربة الفعلية، أن الإسلاميين، قد يكونون أسوأ من غيرهم في تدبير الشأن العام. فأين ذهبت الشريعة يا ترى؟ وأين ذهبت الانتقادات للخصوم، التي كانت قبل الوصول؟.. كل هذا، ولسنا نجعل أحدا من الحكام فوق الدين؛ ولسنا نُعفيه مما حمّله رب العالمين!..
6. لم تعد مسألة الحكم محصورة محليا، فيما بين الحاكم والشعب؛ بل إن الأمر قد صار أعقد من ذلك بكثير، لما بدأت معالم النظام العالمي تتبدى للناظرين. وها هو هذا النظام يسيطر على مفاصل الدول والحكومات، وعلى مكونات الشعوب وتنظيماتها، من غير أن يتمكن أحد من الوقوف له. فهل سيقدر الإسلاميون إن هم حكموا، أن يتصدّوا للنظام العالمي؟.. أم إنهم سينصهرون فيه، ويعودون وبالا على شعوبهم وأمتهم؟.. وفي الحالين، لن يخرجوا عما عرفته الأمة من صنوف الحكم والحكام قبلهم.
من أجل كل هذا وغيره، نحن نطالب الأحزاب الإسلامية، والجماعات القائمة على العمل السياسي، أن تحل نفسها بنفسها (قبل أن يبعث الله عليها من ينبري لذلك)؛ حتى لا تبقى عاملة خارج ضوابط الشريعة، وهي تزعم أنها عليها. وإن كل استمرار من قِبلها على ما هي عليه، هو إصرار على مخالفة أصول الدين، وكذبٌ على الشعوب أقبح من كذب من لا دين لهم.
إن المسلمين، حكاما ومحكومين، عليهم أن يكونوا في صف واحد متعاونين. وكل من يسعى إلى جعل الصراع داخليا، فإنه يكون عميلا للقوى الخارجية، علم أم لم يعلم. بل إن العاقل منا، لا ينبغي منه التفريط في الفاسدين الذين غلبتهم أهواؤهم، فكيف بمن كان قابلا للإصلاح أو من كان من المصلحين!.. نعني أن من يسارع إلى بتر الأعضاء المريضة من الجسد، لا يُمكن أن يكون عاملا لصالحه قط!.. بل هو يتحين الفرص للإجهاز عليه، وإن تزَيَّى بزي الممرضين..
إن العمل للدين، لا يصفو لصاحبه، حتى يكون بنظره مجاوِزا للدنيا؛ وإلا كان عاملا للدنيا لا للدين. وإن كل التلفيقات التي يستند عليها الإسلاميون في هذا الباب، ويظنونها شرعية، لا تصح منهم البتة!.. لأن الدين مبني على الإخلاص والخلوص؛ وهما أمران لا يسلمان لمن اعتبر الدنيا. وكأن الناس اليوم يريدون جعل الدين مسايرا لآفاتهم القلبية! وهذا لا يكون!..
عندما ندل في كتاباتنا على الربانيين، فإنما نريد بذلك، من لا نظر لهم إلا إلى الله. هؤلاء وحدهم، من نأمنهم على ديننا، لكونهم لا يشاركوننا في أطماعنا الصغيرة. هؤلاء وحدهم، يدلوننا على ما فيه خيرنا، من دون أن يرجوا من وراء ذلك حظا من الحظوظ أو منصبا من المناصب. وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم. هل رأيتم رسولا قط، طلب الحكم على قومه لنفسه؟!..
قد يتعجل أحد المقلدين ويقول: إن يوسف عليه السلام فعل ذلك!.. فنقول: أولا، إن يوسف طلب الوزارة، ولم يطلب الحكم (رئاسة الدولة). ثانيا، هو لم يطلب الوزارة (الاقتصاد) لنفسه عليه السلام، وحاشاه؛ وإنما طلبها ليجاوز بالمصريين أزمة، ما كانوا ليخرجوا منها سالمين، من دون علمه الرباني فيها. ثالثا، من كان يظن من الإسلاميين أنه على قدم يوسف قلبا وقالبا، وتيقّنّا نحن منه ذلك، فإننا سنكون له أول المبايِعين. فكفى خلطا يا عباد الله!.. وعودة إلى بدايات الأمور نُحكمها، لعلنا نفوز من الله بتوبة قبل حلول الأجل المحتوم.
(كُتب هذا المقال، بعد مرور أكثر من 170 يوما، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.)