النخب المكناسية بين المؤسسات التقليدية والتطلعات الحداثية
زنقة 20 _ المصطفى المريزق
هل من الضروري العودة اليوم من جديد للتفكير في معالجة القضايا التاريخية لمدينة مكناس انطلاقا من نزعات الوعي الناجمة عن حركة الصراع و التطور لهذه المدينة، أم انطلاقا من تأثير الحصيلة المعرفية بالواقع و التحديات التي يفرضها المستقبل؟
بصرف النظر عن الدوافع التي قد تحركنا لطرح مثل هذه الأسئلة، يبدو من الواضح أن التعبير عن النموذج البديل يفترض قبل كل شيء التخلص من التبعية للجهاز المؤسساتي الذي ينتج و يعيد إنتاج النظم الاجتماعية التي تخرج من رحيم النظام السياسي الذي يعتبر في العلوم السياسية الإطار العام للنظام الاجتماعي. و نعني هنا بالنظام السياسي مؤسسات السلطة، جهاز الدولة ووسائل عملها و كل ما يرتبط به ( حسب موريس دوفيرجيه).
لعل الحديث هنا عن واقعنا المتخلف لا يكفي منا أن نكون على علم و دراية بما يحدث من حولنا، و لا يكفي كذلك الوعي بمعالم التخلف و ما تطرحه هذه الأخيرة من أسئلة حول ظواهره و تجلياته.
إن أزمة علاقة المدرسة بالمجتمع باتت من العناصر التي يتطلب فهمها و دراستها، خاصة و أن الوظيفة الاجتماعية الأساسية التي يقوم بها نظام التعليم باتت تكرس هذه الأزمة من خلال تمرير أهداف و مناهج و وسائل و إدارة و أطر تعليمية و تربوية، ألخ. تنتج الخضوع لقيم النفور و انعدام الثقة و التشكيك في كل المشاريع و التهرب من المسؤولية و التنكر لقيم الديمقراطية و الابتعاد عن تحمل المسؤولية.
ما يحدث اليوم في مدينة مكناس من هروب النخب من الفضاء السياسي، يعتبر جزء من ما أنتجته التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي عمقتها أزمة علاقة المدرسة بالمجتمع. فدور المدرسة في المدينة أصبح دورا ثانويا يقتصر على تقديم بعض الخدمات البسيطة التي لا ترقى إلى مستوى الإبداع و تعليم آليات الحكامة الجيدة و احتضان الكفاءات القادرة على المساهمة في نمو و تنمية المدينة و المشاركة في صناعة القرار أو التأثير فيه.
مكناس اليوم، مثلها مثل العديد من المدن المغربية، تعاني من تراكم مشاكل معقدة ناتجة في المقام الأول عن غياب إستراتيجية واضحة لدى الفاعلين المحليين، و غياب آليات التحفيز و القيادة في المقام الثاني، و غياب التفاعل الايجابي مع طموحات أهل المدينة و الفاعلين فيها.
لقد أكدت العديد من الظواهر الاجتماعية أن ولادة النخب في مكناس – سواء تعلق الأمر بالنخب الإدارية، أو النخب الاقتصادية، أو النخب السياسية- كانت في غالبية الأحيان ولادة غير طبيعية. و هي بصورة عامة، نخب تقليدية لا تؤمن بالتنافسية و لا بالتراتبية الجماعية المتولدة عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (مثلا). و هي بالتالي فئات لا يعتمد عليها في الاستقرار و الديمومة. و النتيجة هي تشويه الفضاء العام و زرع قيم المحسوبية و الزبونية و المحاباة، بدل إنتاج قيم التقدم و التطور.
إن مثل هذه النخب تحجب الحقيقة و المعرفة، وتدفع النخب ذات المرجعية الحداثية و الديمقراطية إلى الابتعاد عن الواقع و الهروب إلى الخلف، و الاهتمام بالإنجاب و تربية الأطفال و توفير شروط تمدرسهم، و الصهر على راحتهم و الاستثمار في العائلة و متطلبتها المعنوية و المادية.
إن التركيبة البشرية للجماعة الحضرية لمدينة مكناس تبين بالملموس هروب و نفور النخب الحداثية و الديمقراطية من تحمل المسؤولية رغم ما ينص عليه الدستور من مبادئ التدبير و التعاون و التضامن و تأمين مشاركة السكان في تدبير شؤونهم و الرفع من مساهمتهم في التنمية المندمجة و المستدامة.
إن قراءة انعكاسات هذا الوضع، تبين التكلفة الباهظة التي تؤديها الساكنة في العديد من المجالات التي تخص الحياة الحضرية. كما أن انعكاسات المخططات العشوائية على ساكنة المدينة، جعلت من مكناس مدينة بدون هوية و بدون طعم و لا مذاق.
فرغم التوسع الذي تحقق في اتجاه إعمار المدينة، تعيش مكناس هوة حضارية نتيجة غياب نسق حضري و وجود أنماط و مظاهر لم تشملها عملية التغير الحضري، أفقدتها و ظيفتها السياسية و الثقافية و الصناعية.
إن الجماعة الحضرية لمكناس ليست مجرد حجم و كثافة سكانية، و ليست مجرد أنشطة مادية و تكنولوجية تطبع بها المجتمع المكناسي. و لهذا، فدور النخب “الصالحة” في نمو و التطور بات دورا محوريا في التأثير على نمط الحياة و فق ما يحتاج له البناء و التنظيم الاجتماعي من وظائف حقيقية سياسية تخص تنمية المؤسسات الإدارية، و اقتصادية تخلق شروط الإدماج الاقتصادي، ثقافية تربط بين المدرسة و المجتمع، و اجتماعية تتعلق بالحماية الاجتماعية و السلم و الأمن و الأمان.
الآن، و نحن على أبواب استحقاقات جديدة، من الصعب الإحاطة بكل خصوصيات مدينة مكناس، و من الصعب إقناع النخب الحداثية و الديمقراطية بالدخول في الممارسة السياسية اليومية. و هو بالتالي ما يصعب فهمه أو الحكم عليه لاسيما في ظروفنا الحياتية الحالية التي توفر لغالبية الناس المعلومة و التواصل الواقعي و الافتراضي و التنقل و الإعلام و التكنولوجية.
إن أزمة المدرسة، في الواقع، انعكاس لأزمة الإنتاج الاجتماعي نفسه، لذا فإحداث تغيير جذري في منظومة التعليم يطرح مهمة سياسية كبيرة تستلزم تغيير لصالح القوى الاجتماعية الحداثية و الديمقراطية و لنخبها التي لها المصلحة الأولى في تحرير المجتمع من مدرسة تنتج التمييز، و مقاومة المد الرجعي و المحافظ.
و إذا كان هذا الطموح يتطلب زمنا آخر غير زمننا، فلنا أن نختار بين الانتظار و بين المشاركة و الاقتراب من الواقع و الانخراط في كل الديناميات المجتمعية التي لا تخشى التطور الجديد و لا المصلحة العامة، لكي لا نكون من أولائك الذين يطلبون كل شئ و غير مستعدون للتضحية بأي شيء.
المريزق المصطفى، أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس – المغرب –