حكايتان في سوء حالنا: من محطة البيضاء الميناء إلى الحسيمة
بقلم : أحمد عصيد
في يوم الجمعة 21 أكتوبر 2016 ، كنت عائدا من الدار البيضاء إلى الرباط ، قصدت محطة القطار الرئيسية لأستقل قطار السابعة و20 دقيقة، لأفاجأ بوجود جموع غفيرة من المواطنين، لا يمكن أن يسعها قطار، وهي تزدحم على الأرصفة في انتظار الفرَج، بسبب عطب حدث ما بين البيضاء والرباط جعل القطارات تنقطع لمدة غير يسيرة. وبقدر ما تزايدت جموع المواطنين على الأرصفة، بقدر ما تفاقمت على وجوههم علامات الامتعاض والغضب، ليس لأنهم لم يجدوا قطارا يقلهم، بل بسبب الاستهتار بهم ومعاملتهم كما تعامل الحيوانات والبهائم العجماوات، ففي لحظات الأزمة، يعلم الجميع بأن أول ما يتحتم على المسؤولين عمله قبل اتخاذ التدابير الأولى لإصلاح العطب تكثيف التواصل مع المواطنين والاعتذار لهم، وجعلهم يتابعون عن كثب ما يجري حتى يكونوا على بينة، لكن ما فعله مسؤولونا هو أنهم تعمدوا الاختفاء عن الأنظار وترك الناس لحالهم دون أن يكون هناك محاور لهم أو مخبر عن واقع الحال، حتى يحاطوا علما بما يقع ويجري على حساب مصالحهم وأعصابهم.
انتظر الناس إلى حدود الساعة الثامنة والربع ليروا في النهاية قطارا قادما إلى المحطة، فاستبشروا خيرا واعتقدوا أن آلامهم قد انتهت، غير أن القطار القادم فتح أبوابه ليغادره الركاب الذين نزلوا وقد شحبت وجوههم وابتلت ثيابهم من العرق، وهم يسبون ويشتمون بشكل مقذع، وبعد أن نزل جميع الركاب تمكنت الجموع الغفيرة التي كانت في الانتظار من أن تصعد في معظمها إلى القطار ليبقى بعضها على الأرصفة بسبب اكتظاظ العربات بالركاب الذين ظلوا في معظمهم واقفين، وقد أغلق القطار أبوابه ونوافذه دون أن يتحرك من مكانه، وظل على هذه الحال إلى حدود الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة، حتى شعر الناس بالاختناق بسبب عدم اشتغال المكيفات، وبدأوا يحاولون فتح الأبواب عنوة، وقد نجح بعضهم في ذلك فشرع الناس يغادرون العربات طلبا لنسمة هواء، كل هذا والتواصل منقطع انقطاعا تاما سواء عبر مكبرات الصوت أو بالطرق المباشرة، وبعد نزول أغلبية الذين كانوا داخل العربات فوجئوا بالقطار يغلق أبوابه وينطلق دون سابق إنذار، ليترك الركاب على الأرصفة وقد ازداد سخطهم. بحث الناس يمينا وشمالا عن مُحاور فلم يجدوا، لكنهم فوجئوا بمجموعة من رجال الأمن بالزيّ الرسمي يدخلون المحطة ويصطفون بجانب أبوابها المؤدية إلى الأرصفة، فهم الناس الرسالة: فالمسؤولون لا يريدون إزعاج أنفسهم بالتخاطب مع الناس، ولكنهم حريصون على صيانة معدات المحطة من شغب الركاب الغاضبين، إنهم لا يحتقرون الناس فحسب، بل يعتبرونهم متوحشين مخربين عند أدنى خلل يقع. هكذا تعكس أعطابنا انعدام الثقة المتبادل بين المواطنين والإدارة .
لم يجد الركاب قطارا يقلهم إلا بعد أن جاوزت عقارب الساعة العاشرة مساء، وصل الناس متعبين منهكين بعد أربع ساعات قضوها “مسافرين” بين البيضاء والرباط، لكنهم في لجّ غضبهم، كان السؤال المؤلم الذي يتردّد في أعماقهم هو: ما قيمة الإنسان في بلاد المغرب ؟ هل يمكن بعد كل الضجيج الذي ما فتئنا نحدثه حول الكرامة والمواطنة والوطنية والمسؤولية، أن نظل على هذه الحال من امتهان الكرامة الإنسانية واحتقار المواطنين ومعاملتهم كما تعامل البضائع والحيوانات ؟
الجواب يأتي من الحسيمة، حيث لم يُترك المواطن محسن فكري وحيدا على الرصيف في انتظار قطار لا يأتي ، بل تمّ طحنه طحنا في شاحنة الأزبال مع النفايات، بعد أن حاول إنقاذ بضاعته التي يعيل منها عائلته الفقيرة. لهذا العمل الإجرامي رمزية في غاية الخطورة، فقبل عامين من هذا التاريخ، أي في سنة 2014، تم شحن جثث مواطنين من ضحايا الفيضانات بمنطقة سوس على متن شاحنات الأزبال والنفايات، كما تمّ شحن جثث المغاربة من الحجاج بالجرافات مع آلاف الضحايا الآخرين وإيداعهم في حفر جماعية، كما لو أنهم قتلوا في حرب إبادة، دون أن تحرك دولتنا ساكنا من أجل كرامة مواطنيها. كان الأمر مؤلما في جميع الحالات التي ذكرنا، لكن يبدو أنّ ثمة من يسعى إلى تطبيع علاقة المواطنين مع مشاهد احتقار الإنسان وهدر كرامته، كما لو أن “هيبة الدولة” لا يمكن أن تقوم إلا على جماجم الناس ودمائهم، إنها ثقافة تقوم على اعتبار الناس ملكا للسلطة ومتاعا للحكام، لكن يبدو أنه قد آن الأوان لتغيير هذه المعادلة، فحتى لا يذهب دم المواطن الفقيد محسن فكري هدرا، لنعمل جميعا ليس فقط على معاقبة الجناة، بل وعلى إعادة تأسيس علاقة المواطن بالسلطة من أجل أولوية الإنسان قبل كل شيء. من أجل وطن ترسم فيه بوضوح حدود السلطات الأمنية وحقوق الناس بشكل لا رجعة فيه، ويعتبر فيه الإنسان المواطن حجر الزاوية في مشاريع الدولة وخططها، ويلجأ فيها عند كل خلاف أو سوء تفاهم إلى القانون لا إلى القرارات الهمجية والسلوكات المزاجية، والتدابير المتخلفة التي تشعرنا بالمذلة، وتخجلنا أمام العالم.
تحليل جميل مقتضب وعميق في طرح موضوع معانات المواطنين مع الادارة فاينما توجهت الا وتجد في استقبالك وجوه متجهمة عبوسة تجعلك تكره الادارة