دولة الفساد ومجتمع المواطنة

بقلم: د. هشام الشرقاوي

استنادا إلى الفضائح التي يتم الكشف عنها حول عمليات الفساد التي تنخر المجتمع المغربي والتي يتحكم فيها أخطبوط يتحرك بإستراتيجية محكمة أصبح لزاما علينا أن نصرخ بكل اللغات وبكل المواثيق الدولية والشرائع الدينية :”توقفوا عن إهانة هذا الشعب” لأن التعاقد المجتمعي و الدستوري أصبح يفرض حتمية إيقاف هذا النزيف والسرطان الذي أنهك جسم وتاريخ هذا الشعب الكريم والمتسامح.
إن الفساد يطرح مشاكل ومخاطر كبيرة على استقرار المجتمعات و أمنها مما يقوض مؤسسات الديمقراطية و قيمها و القيم الأخلاقية و العدالة ،و يعرض التنمية المستدامة و سيادة القانون للخطر، كما يؤدي الفساد إلى خلخلة القيم الأخلاقية و إلى الإحباط و انتشار اللامبالاة و السلبية بين أفراد المجتمع و بروز التعصب و التطرف في الآراء و انتشار الجريمة كرد فعل لانهيار القيم و عدم تكافؤ الفرص. كما ان الفساد لا يمثل ظاهرة منعزلة عن الإطار المجتمعي الذي ينمو فيه بل هو أحد أعراض المشكلات القائمة ، و بالتالي لن يكتب النجاح لأي إستراتيجية لا تأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة و ساعدت على نموها و تفشيها ولا تضع الآليات التي تساعد على مكافحته في كل مرافق و مناحي الحياة المختلفة
و يمكن حصر بعض أسباب هده الظاهرة في :
– انتشار الفقر و الجهل و نقص المعرفة بالحقوق الفردية و سيادة القيم التقليدية و الروابط القائمة على النسب و العائلة.
– عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث :التنفيذية و التشريعية و القضائية في النظام السياسي و طغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية و هو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة كما أن ضعف الجهاز القضائي و غياب استقلاليته و نزاهته تعتبر سببا مشجعا على الفساد .
– عدم احترام المؤسسات و سيادة القانون و هدا ينتج عنه الاستخفاف و احتقار القرارات الإدارية و القضائية بحيث يصبح الأفراد يتحكمون في السير العادي للمؤسسات و يوجهون السياسات العمومية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية مع التحكم في جميع دواليبها و هنا مرتع الفساد و تجدره .
– غياب حرية الإعلام و عدم السماح لها و للمواطنين للوصول إلى المعلومات و السجلات العامة مما يحول دون ممارستهم لدورهم الرقابي على أعمال الوزارات و المؤسسات و هدا ما يشجع على نهب المال العام و استباحته .
إن المطالبة بمساءلة رموز الفساد و استرداد الأموال المنهوبة تجد مشروعيتها في المرحلة التاريخية التي يمر بها الوطن العربي مطالبا باستنشاق نسيم الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية ورافضا كل أشكال الاستبداد و مطالبا بإسقاط الفساد و محاكمة خفافيش الظلام الدين كدسوا ثروات نصفها في بنوك أجنبية على حساب الطبقات الفقيرة و المهمشة
كما ان الرسالة التي توجهها الدولة للمجتمع من خلال محاربة الفساد هي إعطاء الشرعية للمؤسسات و إعادة الثقة في خطابات و برامج الدولة و الإحساس بالانتماء إلى الوطن و ليس الى محمية يسيطر عليها مصاصوا الدماء.و ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب في البنيان المؤسساتي للدولة كضمانة اساسية لعدم تكرار نهب مال العام هذا فضلا على تحمل الدولة للاتزاماتها و احترام تعهداتها الدولية من خلال تفعيل بنود الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي تنص في المادة 30 الفقرة 3 ”تسعى كل دولة طرف إلى ضمان ممارسة إي صلاحيات قانونية تقديرية يتيحها قانونها الداخلي فيما يتعلق بملاحقة الأشخاص لارتكابهم أفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية من اجل تحقيق الفعالية القصوى للتدابير إنفاذ القانون مع ايلاء الاعتبار الواجب لضرورة الردع عن ارتكابها ”.
و قد أوصت العديد من المنظمات ببعض التدابير التي من شانها الحد من هده الظاهرة نلخصها فيما يلي :
– اعتماد قضاء متخصص في مجال مكافحة الفساد يستجيب لمتطلبات التخليق الشامل و المتغيرات المتعلقة بتنوع جرائم الفساد المالي المرتبط بتطور الأنشطة التجارية و الاقتصادية .
-نشر تقارير التفتيش و التدقيق التي تقوم بها الهيئات المتخصصة و اطلاع الرأي العام و وسائل الإعلام على كل النتائج المرتبطة بها .
– اعتماد منظور متطور للحصانة و للامتيازات القضائية بأخذ مبدأ الرفع الفوري للحصانة و الامتياز القضائي عندما يتعلق الأمر بجرائم الفساد –
– استصدار تشريع و نصوص تطبيقية لمنع تضارب المصالح من خلال إسناد المسؤوليات لان هدا الخلط يترتب عليه خلق شبكات متراصة من المصالح و الامتيازات تكبر بشكل اخطبوطي يصعب التحكم فيها أو محاولة كبح طموحاتها .
وبالرجوع إلى الواقع المغربي فقد أثيرت مؤخرا قضية تفويت أراضي الدولة لفائدة ”خدام الدولة” وهذا إجراء غير أخلاقي وغير دستوري يمس في العمق مبدأ المساواة في المواطنة والانتماء إلى هذا الوطن. لكن اسمحوا لي أن أتطرق إلى أسباب نزول مرسوم التفويت وكذلك بعض المراسيم الأخرى ؟ ! لكي تتضح لكم آليات اشتغال الدولة لكسب ولاءات النخب . فقد صدرت هذه المراسيم سنة 1995، 1996 و 1997 وهي السنوات التي عرفت تحولا جدريا في علاقة الدولة بالمجتمع، ففي هذه الفترة التي عرف فيها الراحل الحسن الثاني بمرضه وبمآله؛ فتحت قنوات الاتصال بالمعارضة وبدأ ورش المصالحة الوطنية مع النظام لإشراكها في الحكم تلاها إصدار مراسيم تعطي امتيازات للنخب في أعلى مراكز السلطة الهدف منها ضمان ولاءهم وحرصهم على حماية مصالحهم ومصالح الدولة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ولاء هؤلاء كان دائما للريع والمصالح وليس للشعب والدولة ومجتمع المواطنة.لكن التجربة اثبتت ان الولاء و المواطنة ليس لهما ثمن الا بوجود نظام ديمقراطي و مؤسسات تؤمن حقوق و واجبات المواطنين في ظل قضاء نزيه و قضاة شجعان نحس معهم بالامان في مجتمع الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية.
إن محاصرة الفساد لن تتحقق إلا في إطار الحكم الصالح الذي يعني ” نسق من المؤسسات المجتمعية المعبرة عن الناس تعبيرا سليما ،و تربط بينهما شبكة مثينة من علاقات الضبط و المساءلة بواسطة المؤسسات “.ويمكن ان نلخص خصائص هدا الحكم الصالح في :
– استناد شرعية السلطة التي تمارس الحكم الى سلطة الشعب .
– وجود المواطنين في قلب عملية صنع القرار .
_ اعطاء الشرعية للمؤسسات عوض الاشخاص و ترسيخ ثقافة المسوؤلية و المحاسبة .

إن المعركة على الفساد معركة طويلة الأمد مما يتطلب تعهدات لتغيير السلوك على جميع الأصعدة و هدا لن يتحقق دون وجود إرادة سياسية كاملة من قبل الجميع لدعم جهود هيئات النزاهة و المراقبة في إطار مكافحة الفساد المالي و الإداري و ضمان الدولة لاستقلاليتها المادية و البشرية و ترسيم و ترسيخ دولة المؤسسات في الثقافة اليومية للمواطنين .
إنها فرصة تاريخية في ظل الحراك المجتمعي لتطهير المجتمع من اخطبوط الفساد لأنه لم يعد له مكان للعيش بيننا أو مشاهدته يتحدى مطالبنا و مشاعرنا.فالشعب المغربي لن يقبل بأن يصبح المغرب محمية للطغاة و المفسدين و ناهبي المال العام.

​​​​​​​​د. هشـــام الشرقاوي
رئيس المركز المغربي للسلام والقانون

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد