بوز لزنقة 20 : القاسم الإنتخابي و الأعيان أنقذا أحزاب اليسار من زلزال ثامن شتنبر

زنقة 20 . جمال بورفيسي

يؤكد أحمد  بوز، في الحوار التالي، أنه لا يمكن الجزم باستحالة عودة اليسار إلى العمل المشترك أو التنسيق في ما بينها، وحتى ولو بدا أن الأمر صعب، لكنه غير مستحيل.

ويضيف بوز أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط كلية الحقوق السويسي، أن الأحزاب اليسارية حتى ولو اتجهت إرادتها لإعادة الاعتبار لنفسها وتجاوز ضعفها فإنها لن تكون أمام مهمة سهلة ويسيرة.

ويوضح أنه رغم أن أحزاب اليسار حسنت نتائجها في الاستحقاقات الانتخابية لثامن شتنبر ، حيث حصلت مجتمعة على 61 مقعدا نيابيا، إلا أن هذا العدد من المقاعد لا يمثل أكثر من 15 في المائة من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 395 مقعدا، ولا يعطي بالتالي الإمكانية لهذه الأحزاب حتى ولو توافقت في ما بينها على العمل المشترك لأن توظف إمكانيات تشريعية ورقابية يتيحها الدستور لأعضاء البرلمان.

ما هو تقييمك للنتائج التي حصلت عليها أحزاب اليسار في الانتخابات الأخيرة؟

ج ـ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن أحزاب اليسار هو نفسه يثير بعض الإشكال، هل نقصد بها الأحزاب التي تصرح بأنها أحزاب يسارية أم أننا في حاجة إلى معايير أخرى لفرز الأحزاب التي لا تزال تحسب على اليسار وتلك التي لم تعد كذلك.

علما أن مفهوم اليسار نفسه لم يعد من السهل ضبطه وتحديده، فقد أضحى هذا المفهوم في عالم اليوم متحولا، بحيث لم يعد يشمل فقط القوى السياسية والاجتماعية التي كانت تكونه من قبل، كما خضع لبعض التكيف من حيث استيعابه لتصورات ومقاربات ليبرالية، وخاصة على مستوى ثلاثة أبعاد أساسية: الحرية، الديمقراطية، والتنمية الاقتصادية.

لكن إذا تجاوزنا هذا النقاش، وما يثيره من إشكاليات، يمكنني القول إن نتائج أحزاب اليسار تقدمت من الناحية العددية مقارنة بنتائج 2016، على الأقل إذا ما أخذنا نتائج مجلس النواب كمثال.

فقد حصلت مجتمعة على 61 مقعدا بعدما لم يتجاوز عدد مقاعدها 34 في 2016. فالاتحاد الاشتراكي انتقلت مقاعده من 20 في 2016 إلى 35 في 2021، والتقدم الاشتراكية أصبح عدد مقاعده محددا في 21 مقعدا بعدما لم يتجاوز 12 في الانتخابات التشريعية الماضية، وجبهة القوى الديمقراطية حصدت 3 مقاعد بعدما لم تكن ممثلة في مجلس النواب خلال الولاية التشريعية السابقة.

أما الأحزاب المكونة لفيدرالية اليسار الديمقراطي ولو أنها لم تشارك هذه المرة مجتمعة في إطار تحالف انتخابي فقد استطاعت أن تحصل على نفس العدد من المقاعد الذي حصلت عليها سنة 2016 (مقعد لفيدرالية اليسار ومقعد للحزب الاشتراكي الموحد).

لكن، هذا التقدم العددي لنتائج أحزاب اليسار لا ينبغي أن يحجب ثلاثة معطيات أساسية سيكون لها تأثير، في نظري، على سلوكات هذه الأحزاب السياسية، وعلى نوعية المواقف السياسية التي ستتبناها على الأقل على مستوى المؤسسة التشريعية:

الأول، يظهر في كون أن هذا العدد من المقاعد لا يمثل أكثر من 15 في المائة من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 395 مقعدا، ولا يعطي بالتالي الإمكانية لهذه الأحزاب حتى ولو توافقت في ما بينها على العمل المشترك لأن توظف إمكانيات تشريعية ورقابية يتيحها الدستور لأعضاء البرلمان.

فجمع البرلمان في دورة استثنائية يحتاج إلى طلب ثلث أعضاء مجلس النواب أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين، والمطالبة بإحداث لجان تقصي الحقائق يتطلب هو الآخر الثلث في أحد المجلسين، وتحريك ملتمس الرقابة يلزمه توقيع خمس أعضاء مجلس النواب، وهو نفس العدد (الخمس) المطلوب من أجل اللجوء إلى المحكمة الدستورية للطعن في دستورية القوانين.

الثاني، يتمثل في أن عدد هام من هذه المقاعد (25 مقعدا) حصلت عليها أحزاب اليسار في اللوائح الجهوية للنساء، وبالتالي فقد ارتبطت بتطبيق فكرة التمييز الإيجابي التي تستفيد منها النساء، كما ارتبطت خاصة بالطريقة الجديدة لاحتساب القاسم الانتخابي على مستوى انتخابات مجلس النواب، بحيث لولا هذه الآلية، التي انتقدتها بعض أحزاب اليسار واعتبرتها محاولة للتحكم في مجريات العملية الانتخابية وفي نتائجها، لما كان لهذه الأحزاب أن تصل إلى هذا المستوى من التمثيلية.

أما الثالث فيتجلى في نوعية الفائزين باسم هذه الأحزاب، فإذا ما استثنينا اللوائح الجهوية للنساء التي يبدو أن حضور مناضلات هذه الأحزاب فيها كان لافتا، مع بعض الاستثناءات، فإن الكثير من الفائزين باسمها في اللوائح المحلية لا سابق علاقة لهم بها، فهم قد استقطبوا من أحزاب أخرى، والبعض منهم يحسب على فئات اجتماعية غير مألوفة في تركيبة هذه الأحزاب، خاصة لما نتحدث عما نسيمهم بالأعيان.

بل إن حالة حزب جبهة القوى تبدو مثيرة للانتباه، عندما يكون كل الفائزين باسمها لهم علاقة مباشرة بأمين عام سابق لحزب آخر تم احتضانه من طرف الجبهة بعدما لم يحصل على تزكية حزبه الأصلي.

لاحظنا أن الأحزاب اليسارية أصبحت كلها في المعارضة، وبالتالي، هل يمكن أن يشكل ذلك منطلقا جديدا لإعادة إحياء اليسار وتعزيز مكانته في الساحة السياسية الوطنية؟

ربما بعض الترتيبات السياسية التي تمت بعد إعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية، وخاصة الدفع في اتجاه تشكيل الحكومة من الأحزاب السياسية الثلاثة الأولى، كانت تنطلق من أن تأمين اصطفاف كل الأحزاب السياسية المحسوبة على اليسار في معارضة الحكومة سيجعلها تؤمن نوعا من التوازن المطلوب في الحياة البرلمانية والسياسية عموما بين الأغلبية والمعارضة، وحتى خطاب رئيس الحكومة المكلف وقتئذ لحظة الإعلان عن حصول اتفاق لتشكيل الأغلبية لمح إلى هذه المسألة، سيما في ظل الانهيار الانتخابي والسياسي لحزب العدالة والتنمية.

لكن، أن تكون هذه الأحزاب السياسية متمرسة على المعارضة، ويمكنها أن تعطي دينامية للحياة البرلمانية والسياسية انطلاقا من هذا الموقع، فإن ذلك لا يمنع من القول إن هذه المهمة لا تبدو مؤكدة. من جهة أولى، لأن بعض هذه الأحزاب السياسية حشرت في موقع سياسي لم تكن تريده، عندما نستحضر كيف سعى حزب الاتحاد الاشتراكي، أو لنقل قيادته، بقوة لأن يكون الحزب جزء من التحالف الحكومي، وحزب التقدم والاشتراكية ولو أنه تأفف في طلب المشاركة وخرج أمينه العام لكي يقول إنه لم يتلق  عرضا بالمشاركة لو هو قدم طلبا في الموضوع لا أعتقد أنه سيرفض المشاركة في الحكومة إن هي عرضت عليه، وهذا سيجعلها تقتصد كثيرا في معارضتها لأنها ستعيش على إمكانية تغير الظروف التي تسمح بإمكانية حصول تعديل حكومي يتيح لها الفرصة من جديد لكي تدخل إلى الحكومة من النافذة بعدما طردت من الباب.

ومن جهة ثانية، لأن بروفايل نخبتها البرلمانية، حيث يغيب المناضلين المتمرسين على الخطاب السياسي المعارض ليحتل مكانهم الأعيان الذين يتطلعون أكثر نحو التقرب من الوزراء وبناء العلاقات التي تؤمن لهم حماية مصالحهم، سيكون عائقا أمامها في القيام بهذه المهمة ولن يساعدها كثيرا في انتاج مواقف سياسية معارضة ومنسجمة وتعكس اختياراتها ومرجعياتها.

ثم أن هذه الأحزاب السياسية عموما، أنهكتها سنوات المشاركة، وخدشت كثيرا الصورة التي كانت تسوقها كأحزاب تجسد التغيير، وتدافع عن قيم محددة، وأضحت تعيش مشكلة مع المجتمع، وستظل تواجه من طرف العديد من الفئات بسؤال ماذا فعلتهم عندما كنتم في الموقع السياسي (الحكومة) الذي يؤهلكم لكي تقدموا شيئا ما، ولكي تتميزوا في تجسيد الاختيارات والبرامج التي كنتم تطرحونها وتنادون بها؟ ولماذا تنتقدون الآخرين على أفعال وسلوكات واختيارات لم تترددوا أنتم عندما كنتم في مواقع المسؤولية من القيام بها وإشاعتها.

علما أن “تهمة المشاركة في الحكومة” لا تلاحق فقط أحزاب اليسار التي شاركت بل لا تسلم منها كذلك أحزاب اليسار المعارض، لأن فئات من الناس لا تميز بينها وظلت تكون رؤية واحدة عن كل أحزاب اليسار بغض النظر عن تموقعاتها السياسية المختلفة، حتى ولو كان بعضها قد ظل يمارس المعارضة في الشارع ويتصدر الخطوط الأمامية لجبهات النضال الاجتماعي والسياسي.

ثم لا يجب أن ننسى ما قلناه من قبل عن بروفايل الفائزين باسم هذه الأحزاب، الذي يعكس اتجاه أحزاب اليسار نحو المزيد من تكريس عجزها وعدم قدرتها على إجراء التطابق المطلوب بين الخطاب والمرجعية و”البروفايل” البشري الذي يحتاجه تجسيد ذلك الخطاب وتلك المرجعية.

هذا علاوة على أن هذه الأحزاب السياسية أضحت مجردة من بعض الآدوات التي كانت تشكل في ما مضى قوتها الضاربة، عندما نتكلم مثلا عن النقابات التي ظلت تتماهى معها وتجسد امتدادا اجتماعيا لها، فهي الأخرى تراجع صوتها في شارع النضال الاجتماعي، كما تراجعت نتائجها الانتخابية، على مستوى اللجان المتساوية أو ممثلي المأجورين وأيضا على مستوى مجلس المستشارين (الكونفدرالية حصلت على 3 مقاعد والفيدرالية الديمقراطية للشغل حصلت على مقعد واحد من أصل 20 مقعدا مخصصا للنقابات العمالية).

السؤال الثالث: هل تؤمن بإمكانية عودة اليسار لكي يلعب أدوارا ريادية في الساحة السياسية والاجتماعية، وهل تعتقد أنه بإمكان قوى اليسار أن تتوحد؟

يصعب القول إن هذه الإمكانية متعذرة. هناك اعتقاد سائد لدى الكثيرين من اليسار وغير اليسار، وحتى في صفوف بعض الباحثين والمهتمين، أن التراجع الانتخابي والسياسي لحزب العدالة والتنمية الذي ظل بقدم نفسه كبديل عنها ربما يوفر فرصة جديدة تتاح أمام هذه الأحزاب اليسارية للنهوض من جديد وتجاوز الفجوة التي أصبحت قائمة بينها وبين الفئات التي كانت تمثلها وتستقطب دعما الانتخابي والسياسي، سيما عندما تنطلق هذه التحليلات من افتراض أن حزب العدالة والتنمية استفاد خلال العشرين سنة الأخيرة من أصوات اليسار ومن “الزبناء” التقليديين له، وتحديدا في صفوف الطبقة الوسطى.

لكن لا أظن أن هذه الأحزاب السياسية حتى ولو اتجهت إرادتها لإعادة الاعتبار لنفسها وتجاوز ضعفها ستكون أمام مهمة سهلة ويسيرة.

أولا عندما نأخذ بعين الاعتبار أن تراجع اليمين (الديني) لم يؤد إلى فراغ سياسي وإنما إلى بروز يمين من نوع آخر (لنسميه محافظ) استطاع أن يحصد الأخضر واليابس في الانتخابات الأخيرة، بغض النظر عن بعض الملاحظات التي يمكن أن تثار حول الكيفية التي تحققت بها هذه النتيجة، وعن الدور الذي لعبه المال وحتى دعم السلطة هنا وهناك.

وثانيا عندما نأخذ بعين الاعتبار أن خلافات أحزاب اليسار لا تتوقف، بالشكل الذي يسمح بالقول إن أحزاب اليسار لا تنتهي من خلاف إلا وتدخل في خلاف آخر، إن لم يكن بين هذه الأحزاب فإنه يكون داخل أحدها.

وثالثا، عندما نأخذ بعين الاعتبار أن فضل أحزاب اليسار الانتخابي تحول إلى فشل سياسي، إن لم يكن فكريا حتى، بحيث لم تعد مشكلة اليسار وأحزابه تتلخص في فقدان بعض المقاعد والأصوات، أو في عدم قدرته على “تسويق منتوجه”، بل أضحت تعكس أزمة تعيشها فكرة اليسار، ومشروع اليسار، وممارسات اليسار.

لذلك، حتى ولو أنني لا أريد أن أغلق أبواب الأمل في صفوف المتطلعين من اليسار إلى غذ أفضل، فإنني اعتبر، كمتابع ومهتم بما يحدث في أحزاب اليسار، أن هذه الأخيرة ينتظرها عمل كبير، ثقافي وفكري وتنظيمي وسياسي، حتى يمكنها أن تعود من بعيد لكي تقدم نفسها كبديل لما هو موجود.

أحزاب اليسار محتاجة أكثر إلى إعادة قراءة المجتمع، والإدراك أن تحولات كبيرة حدثت وتحدث فيه، لأنها بدون ذلك لن تستطيع أن تقدم العرض السياسي الذي يمكن أن جذابا وقادرا على استقطاب أوسع فئاته وشرائحه. والأهم أنها محتاجة إلى الوعي بأن عليها أن تفعل شيئا ما من أجل انقاذ نفسها من موت بات محققا أو يكاد.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد