‘الكنيسة الإسلامية’
بقلم : الشيخ عبد العني العمري الحسني
لعل القارئ سيعجب من العنوان، ولعله سيفهم منه معنى غير ما سيجده عندنا بعد اطلاعه على المقال؛ أما نحن فإننا نريد منه وقوع المسلمين، في مثل ما وقعت فيه النصارى، من ترسيم للدين، وتكريس لتراتبية فيه، ما أنزل الله بها من سلطان. يحدث هذا، عندما يفقد الدين حقيقته، ويصير وسيلة من وسائل تحصيل الدنيا، لدى الأتباع والمتبوعين.
إن الإسلام، جاء ليحرر العباد من عبودية العباد؛ هكذا بدأ، وهكذا كان عند الجيل الأول من المسلمين. لكن الناس سرعان ما يعكسون الغايات، مع إخلادهم إلى الأرض. فيصير ما كان سماويا، أرضيا؛ وما كان ربانيا، وضعيا. والفقهاء الذين كانت تُناط بهم دلالة الناس على طريق الحق، أصبحوا أداة للسيطرة على الشعوب بحق وبغيره. وصار لنا “إكليروس” كما لإخواننا النصارى…
منذ القرون الأولى، صار الفقهاء في المجتمع الإسلامي قوة، يُحسب لها حسابها من قِبل السلاطين والحكام. وعلموا هم أن بإمكانهم ابتزاز أولئك، من أجل تحصيل أغراضهم في مقابل إظهار الولاء، الذي يُعد شهادة بـ”الشرعية” في أعين العامة المراقبين. وكانت الأمور تسير بما لها وما عليها في أزمنة، اتسمت بالمحدودية والنسبية؛ إلى أن جاء عصر العولمة غير المسبوق.
غير مستغرب من فقهائنا، أن يبقوا بعقولهم ملازمين لقرون ماضية، وقد عشّت (من العشى) أعينهم أغْبِرةُ الكتب القديمة؛ لكنّ حكم المرحلة، لا بد أن يدركهم، أحبوا أم كرهوا. لن يُناسبهم اليوم أن “يلعبوا” دور السلطة الدينية القابلة للتداول في البورصة السياسية؛ وإن كان يعز عليهم التفريط فيما حازوه من جاه ومال على الدوام.
إن العولمة تستدعي من الفقهاء القيام بمهمتهم الأصلية، التي كادوا ينسونها؛ ألا وهي تبصير الناس بالحق في كل أمورهم. وهذا يعني أن المعايير الفقهية، التي تمكِّننا من تصنيفهم، ستتغير حتما، وتعود إلى ما كانت عليه في الأصل. وسيصير الفقيه، مَن رزقه الله فقها في دينه، لا من عُيِّن في منصب سياسي ذي لبوس فقهي. ولا شك أن هذا لن يحدث دفعة واحدة، وسيستغرق زمنا لبلوغ الغاية منه. ولكن في النهاية، ستستعيد الأمة فقهاءها، الذين تنتظرهم أعباء لم يألفوها من قبل. وهذا يعني أيضا، أن فئة منهم ستتمسك بما هي عليه، فيتجاوزها الزمان إلى من لهم قابلية الـ”التكيف” مع الأحداث. كل هذا، والأمة لا تخلو من فقهاء علماء عاملين، أُهملوا ونُبذوا بسبب نقائهم ووفائهم؛ لا بد أن يُعاد إليهم -في سياق ما ندعو إليه- الاعتبار. فضلهم لا يعلمه إلا من له علم بحالهم، الذي أصبح مع انعكاس المعايير مجهولا.
إن كنيستنا (الكنيسة في الأصل، هي الجماعة النصرانية لا المعبد) لا بد من أن تعيد النظر في ترتيبها، لتكون ملائمة لمتطلبات المجتمع العولمي التعددي؛ وإلا حُكم عليها بأن تكون على تراث ديني، لا على دين حي. إن بقينا على هذه الحال من التخلف الديني، فإننا سنصبح فئة جديدة من طبقة “أهل الكتاب”، لا أكثر. فهل نحن واعون بما ينتظرنا من “تحديات”؟..
يبدو أن بعض الفقهاء من أمتنا يريدون أن يجعلوا لنا “بابا”، كالذي للنصارى؛ ويكونوا هم “كرادلة” على البلدان. يظنون أن هذا سيحمي الدين، أو يرومون جعل الناس يظنون؛ وفي الحقيقة، ما يريدون إلا توسيع سلطاتهم، ليتحكموا في رقاب الحكام والمحكومين. إننا بالقطع هنا، لا نقصد المؤسسات التعليمية التي على شاكلة الأزهر، والتي نرجو لها إشعاعا يكون في مستوى تطلعات الشعوب؛ ولكننا نعني ما يُراد له أن يكون تنظيما عالميا، يحتكر الكلام في الدين، من غير بيّنة من رب العالمين.
أيها الناس، لقد حذَّرنا الله من اتباع خطى اليهود والنصارى، في تنكبهم عن الصراط المستقيم؛ فما لكم تُعيدونها مطابِقة كأنكم لا تسمعون؛ مع العلم أن جل النصارى، لا تغيب عنهم أحوال المسيح عليه السلام، حتى تختلط عليهم بأحوال الرهبان. لسنا في حاجة إلى دين مهيكل اليوم، بقدر حاجتنا إلى ربانيين، يكونون على هدي عيسى في المحمديين؛ يدعون إلى الله، ويزهّدون في الدنيا وهم زاهدون؛ من غير بهرجة ولا تكلف، ولا طمعٍ في قياصرة الأمصار العصريين؛ وبلا مداهنةٍ لأحبارٍ بدلوا السنة وباعوا بأرخص الأثمان الدين.
فهل يا أمة الإسلام، تهُبّين إلى نفض الغبار عن أعينك لتري السبيل أمامك، واضحا جليا، كما عليه سلك الصحابة خلف سيد المرسلين؟!..
(كُتب هذا المقال، بعد مرور أكثر من نصف عام من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن).