العزوف والمقاطعة والرشوة الانتخابية، الثالوث الأخطر على البناء الديمقراطي
بقلم : محمد إنفي
لقد أصبح العزوف السياسي، أو بالأحرى، الانتخابي ظاهرة مقلقة، لكونها تهدد البناء الديمقراطي في المغرب بالهشاشة وفساد “اللعبة السياسية”. ولهذا العزوف أسباب تاريخية وسياسية جعلت المغاربة يتخاصمون مع صناديق الاقتراع ويعزفون ليس فقط عن المشاركة في التصويت؛ بل حتى عن التسجيل في اللوائح الانتخابية؛ ذلك أن العديد منهم يستهين بهذا الحق ويحرم نفسه حتى من إمكانية الاختيار بين المشاركة والمقاطعة .
ثم إن هناك أصواتا، لا يستهان بها، تتعالى، بمناسبة كل استحقاق انتخابي، لتنادي بمقاطعة الانتخابات، مستندة في ذلك على تحليل سياسي للوضع ( يمكن أن نتفق أو أن نختلف معه)، ترى من خلاله أن لا جدوى من المشاركة في اللعبة السياسية في ظل الوضع القائم.
وإذ نميز بين العزوف الانتخابي، الذي قد يعني، من بين ما يعنيه، عدم الاهتمام بالعمل السياسي، وبين مقاطعة الانتخابات باعتبارها موقفا سياسيا يتخذه الأفراد، كما تتخذه أحزاب وجماعات ذات طابع سياسي، نشير إلى أن بعض أحزاب اليسار التي دأبت على مقاطعة الانتخابات، قد فهمت، بعد سلسلة من المقاطعات، أن هذا السلوك ليس مجديا في العمل السياسي؛ خاصة وأن الانتخابات هي جزء أساسي في العملية السياسية. فهي التي تحدد طبيعة المؤسسات التمثيلية وبها نقيس مدى صلابة أو هشاشة البناء الديمقراطي الذي، بدونه، لن تكون هناك عدالة اجتماعية ولا كرامة إنسانية ولا احترام للحريات الفردية والجماعية ولا، ولا… !!!
وما يهمنا، هنا، ليس الخوض في أسباب العزوف أو المقاطعة (وهي، على كل، أسباب تسائل الدولة والأحزاب وكل المجتمع؛ ونكتفي، في هذا الباب، بالإحالة على مقال، كتبناه قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2011، تطرقنا فيه للأسباب التاريخية والسياسية للعزوف الانتخابي. انظر ” الانتخابات التشريعية لـ 25 نونبر: هل من سبيل إلى مصالحة المواطنين مع صناديق الاقتراع؟”،”الاتحاد الاشتراكي”، 19 أكتوبر 2011)؛ بل، ما يهمنا هي معرفة من هي الجهات التي تستفيد من هذين الموقفين معا.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء لإدراك خيوط اللعبة واستيعاب من هي الجهة أو الجهات المستفيدة منها. فكلما قل عدد المشاركين في عملية التصويت، كلما تيسرت إمكانية التحكم في النتائج؛ ليس بواسطة الطرق التقليدية مثل التزوير المباشر، كما كان يحدث في سنوات الجمر والرصاص؛ بل عن طريق الرشوة الانتخابية التي لها محترفوها و”مهندسوها”.
وللرشوة الانتخابية أوجه متعددة، أبرزها، من جهة، شراء الأصوات بمقابل مادي زهيد، قد يصل في أحسن الأحوال إلى 200 درهم، وقد ينزل إلى 20 درهما حسب متغيرات”السوق” الانتخابي الذي ينشط، أساسا، في أحزمة الفقر ويستفيد من هشاشة وضعف الفئات المقيمة بها؛ وهناك بعض السماسرة (الشناقة) المتحكمين في بعض الأحياء أو القرى، لهذا السبب أو ذاك، يلجأ إليهم “مول الشكارة” ويغريهم بمبالغ مالية مهمة حتى يضمنوا له الأصوات ويضمن هو المقعد؛ ومن جهة أخرى، هناك رشوة انتخابية تتدثر في لباس العمل الخيري أو تختبئ تحت غطاء المساعدة الاجتماعية. وتتكلف بهذه المهمة بعض الجمعيات المحسوبة على المجتمع المدني، ولا يجمعها مع هذا المجال إلا الاسم.
ولن نفشي سرا إن قلنا بأن القوة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية يستمدها من توظيفه للعمل “الخيري” الذي ظاهره إحساني وباطنه رشوة انتخابية تقدم بمناسبة المواسم الدينية (رمضان، عيد الأضحى…الخ) والاجتماعية (الدخول المدرسي، مثلا). فهذه الرشوة تقدم على أنها “صدقة” وأن أصحابها يبتغون وجه الله ويعملون للآخرة؛ بينما هم، في واقع الأمر، يتصيدون أصوات الفقراء المحتاجين ويهيئونهم للتصويت لفائدتهم في كل استحقاق منظور. وهذا ليس غريبا على من يوظف الدين الإسلامي الحنيف لأغراض حزبية ضيقة ولمصالح دنيوية فانية.
ويا ليتهم كانوا يعملون، من خلال المناصب التي يحتلونها، من أجل رقي الوطن وتقدمه ! لكنهم، وللأسف الشديد، عادوا ببلادنا، خلال الخمس التي قضوها في تدبير شؤون البلاد، سنوات إلى الوراء. وقد تضررت، بفعل هذا النكوص، جل المجالات حتى لا نقول كلها.
لقد استفحلت البطالة بسبب ضعف نسبة النمو، وتَردَّت القطاعات الاجتماعية، وبالأخص التعليم والصحة، إلى درجة غير مسبوقة، وتفاقمت المديونية الخارجية لدرجة أصبحنا معها نخاف من فقدان سيادة بلادنا واستقلال قرارها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن حقوق الإنسان قد تدهورت وأصبحنا نخشى على بلادنا من عودة سنوات الجمر والرصاص، وربما ينتظرها ما هو أفظع من ذلك بفعل تغلغل الفكر الإخواني الاستبدادي، مع هذه الحكومة، في دواليب الدولة والمجتمع. ناهيك عن ضرب القدرة الشرائية لعموم المواطنين بسبب الزيادة المطردة في الأسعار وبفعل الاقتطاعات المجحفة من رواتب الموظفين وتجميد الأجور وإثقال كاهل الفئات المتوسطة بالضرائب، الخ.
ومع ذلك يصر “بنكيران”على العودة إلى التدبير ولو بالقوة، مهددا الدولة والمجتمع بالفتنة إذا لم يحرز حزبه المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المقبلة. وقد وصل به الأمر إلى التشكيك القبلي في نتائج الانتخابات التي تعود إليه، مؤسساتيا، مسؤولية الإشراف عليها.
ويبدو أن اللعبة قد أصبحت مكشوفة. فالهدف الأساسي من هذا التشكيك، هو خلط الأوراق وبث البلبلة في النفوس بهدف، من جهة، تعزيز فكرة المظلومية التي لم يحد عنها يوما؛ ومن جهة أخرى، دفع المترددين والناقمين على الوضع إلى مقاطعة الانتخابات. وبذلك، سيضمن الانتصار لأن أصوات العدالة والتنمية مضمونة ولن يزاحمه فيها أحد. وهي أصوات الأتباع وأصوات “ضحايا” فعلهم “الخيري” الذي يعمل بعكس المثل الصيني. فحزب العدالة والتنمية يفضل أن يعطي الناس السمكة، بدل أن يعلمهم اصطيادها. وبهذه الطريقة يضمن تبعيتهم له. فهل هناك استغلال أفظع من هذا؟ وهل هناك غش أخطر من هذا؟ وهل هناك خبث أقوى من هذا؟ وهل…؟ وهل…؟
وها قد أفصح “بنكيران”، في أحد تجمعات حزبه، عن مرجعيته الحقيقية. إنه ينهل من فكر الشيخ ابن تيمية، المرجع الأساسي للتيارات السلفية المتطرفة، بمن فيها السلفية الجهادية. مما يعني أن رئيس الحكومة المنتهية ولايته يهدد استقرار البلاد، ليس فقط بممارسة التهديد والوعيد تجاه الدولة والمجتمع، بل وأيضا بالفكر الذي يحمله، إن جاز أن نسمي ذلك فكرا.
واعتبارا لكل ما سبق، أؤكد، مرة أخرى، بأنه لن يكون هناك أسوأ من “بنكيران” في رئاسة الحكومة (انظر “في رئاسة الحكومة، لن يكون هناك أسوأ من بنكيران”، “الاتحاد الاشتراكي”، 9 شتنبر 2016، أو الموقع الإليكتروني “مغرس”). وعليه، أوجه نداءا إلى كل الغيورين على مستقبل هذا الوطن وإلى كل الذين تراودهم فكرة مقاطعة الانتخابات أو الذين اتخذوا قرار المقاطعة أو الذين لا زالوا مترددين حول الموقف الواجب اتخاذه أو الذين دأبوا على المقاطعة أو غيرهم، من أجل أن أطلب منهم العدول عن المقاطعة. فبالمشاركة في التصويت سوف يحدون من الأخطار المحدقة بمكتسباتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها، ويحمون الوطن والمواطنين من الفكر الدخيل على ثقافتنا المتفتحة.
فالمعول على الطبقة المتوسطة من أجل قلب المعادلة. وكيف لا وهي المتضررة بشكل كبير من قرارات حكومة بنكيران !!! ناهيك عن كون هذه الحكومة، بحزبها الأغلبي وذراعه الدعوي، تهدد مشروعنا المجتمعي القائم على التعددية والانفتاح واحترام الحريات الفردية…