بقلم : أحمد عصيد
من مزايا المرحلة التي نمرّ بها أن أمورا كثيرة كان الناس لا يكترثون لها، فأصبحت مثار انتقاداتهم الشديدة وموضوع تعبيرهم عن السخط العلني وعدم الرضا، بعد أن كانوا يواجهونها بالصمت والتجاهل، رغم ما كانت تتركه في دواخلهم من مرارة، حيث كانوا يعتقدون باستحالة تغييرها. لكن روح الحراك الشعبي لـ سنة 2011، أظهرت إمكان تغيير الكثير من السلوكات السياسية أو الحدّ منها أو التقليص من أضرارها، مما يدلّ على تزايد الوعي المواطن لدى الأفراد وشعورهم بواجب الخوض في النقاش العمومي والتأثير في الرأي العام والطبقة السياسية في اتجاه التمكين لدولة القانون والمواطنة.
وإذا كان موضوع النفايات الإيطالية قد أظهر بالملموس تأثير هذا النقاش في مجريات الأحداث، فإن قضية “خدام الدولة” تعدّ أكثر أهمية لارتباطها بطبيعة النسق السياسي، حيث تظهر تفشي ثقافة الريع والمحسوبية والولاء عوض قيم المسؤولية والمحاسبة وتكافؤ الفرص وعقلانية التدبير.
لم يكن بيان وزيري الداخلية والمالية إلا عذرا أقبح من الزلة، فالقول إن مراسيم قوانين ومساطر قانونية قد احترمت في بيع البقع الأرضية المعنية للذين تم تفويتها لهم، لا يغير شيئا من طبيعة المشكل المطروح، ذلك أنه يمكن وضع قوانين غير عادلة لحماية المفسدين في النظم غير الديمقراطية، فالمشكل تحديدا هو خرق مبدأ تكافؤ الفرص، واعتماد تمييز إيجابي غير معقول ولا أخلاقي ولا قانوني لصالح موظفين سامين وذوي نفوذ، وتفويت أملاك الدولة لهم بغير ثمنها الحقيقي، الذي كان يمكن لأي طرف آخر أن يدفعه ليستفيد من ملكية تلك الأراضي طبقا للقانون. فمشكلة التفويت المذكور ليست في خرق المساطر بل في الثمن الرمزي للبيع، والذي ليس ضروريا بالنسبة لشخصيات لا تعاني من الفقر أو الهشاشة، بل تنتمي إلى الطبقة العليا في المجتمع، ويتضح مقدار الغبن الذي يشعر به الناس عندما يتذكرون الأثمنة التي تفرض على الفئات الهشة لشراء بقع أرضية صغيرة لا تتعدّى حجم زربية في منزل “خدام الدولة”، أو بيوت السكن الاجتماعي التي هي أقرب إلى الزنازن الفردية منها إلى مساكن العائلات المتعددة الأفراد.
أما مصطلح “خدام الدولة” ففيه تمويه ظاهر غير مقبول، إذ الصحيح أنهم “خدام السلطة”، أما الدولة فهي جميع المغاربة المنضوين في الإطار الجغرافي ـ السياسي الذي يضمّ كل المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع، سواء كانت داخل السلطة وتدبير الشأن العام أو خارجهما، وبهذا المعنى يعتبر كل المواطنين “خداما للدولة”، لأنهم يعملون من أجل بلدهم، ويحملون في وعيهم شعورا بالانتماء إلى الوطن الواحد والدولة ذات السيادة، ويستحقون بذلك حُسن الجزاء على عملهم، وهو ما يتمثل في الأجور المناسبة وظروف العيش الكريم، وكذا الخدمات المطلوبة في كل القطاعات وخاصة الصحة والتعليم والسكن.
إن خدام الدولة هم جميع القوى الفاعلة والمنتجة في كل المجالات، أما “خدام السلطة” فهم موظفون سامون تعاملهم السلطة بمنطق “الأعطيات” القديم، الذي عرف في تاريخ الاستبداد الشرقي بأنه تأليف لقلوب ذوي النفوذ من أجل استمالتهم وجعلهم في الخدمة، وبما أن ما يقدم لهم يتم خارج القانون وبمنطق الريع القديم، فإنهم ملزمون بالعمل لصالح السلطة في إطار القانون أو بدونه، أي أنّ “خدام الدولة” يكونون مستعدّين لخرق القانون والانحياز للسلطة ضدّ المجتمع في الوقت المناسب، أي عندما يحين وقت المحاسبة، وهذا ما يفسر أن طالب الحق في دولة الريع لا يجدُه، بل يظل ساعيا وراءه طوال حياته دون أن يظفر بشيء منه، حيث تغلق في وجهه الأبواب والنوافذ، لأن خدام السلطة يقومون بواجبهم في حمايتها والذود عنها ضدّ ضحاياها، وكلما زادت الأعطيات والمنح والهدايا كلما زاد ولاء خدام السلطة وتفانيهم في إظهار التفاني والحماس في عملهم، والنتيجة شيوع الفساد وتفشيه في مفاصل الدولة، وتزايد أعطاب التسيير والتدبير، فتقل شرعية السلطة في أعين الناس وتذهب هيبة الدولة التي لا يمكن تعويضها بالعصا الغليظة، لأن الخوف لا يصنع الولاء الحقيقي.
ولكن من جانب آخر، إذا جاز لنا أن ندين السلطة وخدامها على تواطئهم ضدّ مواطني الدولة وخدامها الحقيقيين، فإنه لا يسعنا إلا أن نكشف القناع عن وجوه المنافقين، أولائك الذين يتظاهرون بأنهم غير فاسدين وأبرياء من امتيازات خدام السلطة، لكنهم يتواطئون على السكوت عن المفسدين وعن أنواع الريع في الدولة، إما طمعا في أن يصلهم نصيب منه، أو خوفا من فقدان موقعهم في الحكومة، وغني عن البيان أن من يسعى إلى التحالف مع السلطة ويظهر استعداده للخدمة، إنما يعمل على انتزاع مزيد من المكتسبات لنفسه، الحلال منها والحرام، وقد ظهر أثر ذلك فعلا سواء في الذين استفادوا من الريع، أو في سلسلة الفضائح في تبذير المال العام في المناطق الأكثر بؤسا وفقرا. وإن غدا لناظره قريب.