إحراق الكتب..الجريمة الاخلاقية التي رفضتها القيم الكونية…
بقلم :عبدالله بوصوف. / أمين عام مجلس الجالية
شكلت عمليات إحراق الكتب و المكتبات إحدى الطقوس الملازمة لكل انتقال للسلطة بالحروب أو الثورات أو الانتقال الى إيديولوجية أخرى في اكثر من محطات التاريخ الإنساني ..و تخبرنا أحداثا تاريخية فارقة في تاريخ الإنسانية ان عمليات إحراق الكتب سواء تلك التي تتخد من الدين مضمونا أو تلك التي تقارع أفكارا فلسفية أو فكرية أو أيديولوجيات سياسية و إجتماعية…أنها تشترك في صك إتهام واحدا ، وهو معارضتها للقيم الأخلاقية و التعاليم الدينية أو تعارض أفكار النخبة الحاكمة أو المسيطرة…
لذلك فقد كانت عمليات الحرق تلك بمثابة “جرائم تطهير ثقافي ” و إلغاء لكل المعالم الثقافية والفكرية التي كانت تؤثت مرحلة معينة، لشعب أو دولة معينة …و تطورت تلك الجرائم من الحرق و التدنيس إلى ما يعرف اليوم بظاهرة ” ثقافة الإلغاء ” cancel culture والتي تتخذ من الأشخاص هدفا لها قصد التبليغ عن أخطائهم و بالتالي نبذهم…وهنا نكون أمام مفاهيم مقلوبة من ” إلغاء ثقافة ” الآخر ، إلى ” ثقافة الإلغاء ” لكل فكر معارض و منهج مخالف.. وهنا أيضا سنكون أمام ثنائية ” حرية التعبير ” كحق إنساني كوني من جهة ، و احترام خصوصيات و حريات الاخرين في التفكير و المعتقد من جهة ثانية…إذ من غير المعقول فرض فكر أو الغاء فكر بقوة الحديد و النار…
فالتاريخ نفسه يحدثنا عن الامبراطور الصني صاحب الجيش الطيني سنة 212 ق/م الذي حرق آلاف الكتب و دفن كتابا و مفكرين أحياءا..
التاريخ يحدثنا عن إعلان الكنيسة الكاثوليكية في عهد ” البابا باولو الرابع ” عن ” قائمة الكتب الممنوعة ” سنة 1559 لأنها ” هرطقة ” ضد الايمان و الاخلاق…و من بينها كتاب الأمير لنيكولو ماكيافيلي و قصص Decameron …وغيرها…و ستعرف قائمة المنع العديد من التعديلات قبل ان يطالها الإلغاء سنة 1966 أي بعد اكثر من 400 سنة…!
التاريخ يحدثنا عن وزير البروباغاندا النازي ” جوزيف غولبس ” و كيف وقف مزهوا ليلة 10 مارس من سنة 1933..يتابع عملية إحراق أكثر من 25 الف كتاب لا يتماشى مضمونها مع الفكر النازي..حيث اغلب كُتابها غير ألمانيين أو من اليهود او اشتراكيين و على راسهم كُتُب كارل ماركس و بيرتولد بريخث و هامينغواي و جاك لندن و طوماس مان و ايريش كاستنر و كافكا…و لم يستثن حفل احراق برلين لسنة 1933 نسخ من المنشورات الدينية و الإنجيل…
و كذلك فعلت التنظيمات الإرهابية ” القاعدة ” و ” داعش ” بحرق المتاحف و تدمير مآثر تاريخية مهمة سواء بالعراق أوسوريا..و كذا قيام حركة ” طالبان” بتدمير تماثيل و قطع اثرية لا تقدر بثمن بافغانستان…
و قد سجل التاريخ أيضا، حركات احتجاج ضد عمليات الحرق و محاولات إبادة ثقافات الشعوب الاصلية سواء في أمريكا أو إفريقيا…إذ تم رفع عمليات الحرق الى جرائم ” تطهير ثقافية ” و ” بيبليوفوبيا ” بإحراق مكتبات من حجم مكتبة بغداد في عهد المغول و مكتبة القسطنطينية و المكتبة الفرنسية بستراسبورغ سنة 1870 و مكتبة البوسنه و مكتبات ليتوانيا و كمبوديا و كابول و غيرها …لان المكتبات تُشكل خزانات لأسلحة فكرية وثقافية و سياسية و لايديولوجيات عابرة للجدران…قد تفلح النيران في أكل أوراقها …لكنها لن تصل أبدا الى إبادتها بالكامل فكتابات ابن رشد و الغزالي..مثلا ، لازالت حية رغم الاحتفال باحراقها ذات سياق زمني بالاندلس..
نسوق هذا السرد السريع لأهم أحداث إحراق الكتب والمكتبات في التاريخ الإنساني..اذ كنا نعتقد ان العالم الغربي الذي يتغنى بالديمقراطية و حقوق الانسان و حرية المعتقد ..أنه قطع مع كل اشكال التطرف الفكري و كل اشكال إلغاء ثقافة الآخر..كما كِدنا نعتقد أن الفكر الإنساني قد وسع من هامش ” ثقافة قبول ” إختلاف ثقافة الاخر…فبالامس سُمح بنشر رسوم ساخرة من رسول المسلمين تحت يافطة حرية التعبير و كذلك سُمِح باحراق نسخ من القرآن الكريم في أكثر من عاصمة غربية تحت نفس المبرر/ الحق.. دون مراعاة شعور كل المسلمين في العالم و السخرية من رموزهم و معتقداتهم..وضدا في الحق في حرية المعتقد و ممارسة الشعائر الدينية / الإسلامية…
فكلنا يتذكر احتجاجات الغرب و توسلاتهم و تقديم إغراءات مالية و وُعود بالمساعدات…لحركة طالبان المسجلة ” إرهابية ” عند عزمها على تدمير ” تمثال بوذا ” بافغانستان..باعتباره تراثًا إنسانيا..
بالمقابل لم نشهد تلك المنظمات والوجوه الحقوقية والاقلام الديمقراطية…تحتج أو تندد أو تصرخ في وجه ذلك ” المعتوه ” الذي تجرئ في اول أيام عيد الأضحى بكل دلالاته الدينية و الرمزية..بحرقه لنسخة من القرآن الكريم في دولة السويد الديمقراطية و التي تدعي حماية الأقليات وحقوق الإنسان..حيث رخصت بقرار قضائي السماح بحرق ” كبد ” المسلمين أمام مسجد ستوكهولم..وضدا في المواثيق والقوانين والاخلاقيات الكونية المُهيكِلة لحق و حرية المعتقد…
فلم يعد العقل و الفكر الإنساني يقبل بمثل هذه التصرفات المتطرفة الرافضة للآخر..كما لم يعد المجال متسعًا لتبرير تصرفات مستفزة تنتمي لزمن الطغاة و للعصور الوسطى و الفاشية و الاستعمار…و تساهم في خلق بيئة حاضنة للكراهية و العنصرية و الإقصاء..