اختناق العدالة والتنمية 4. حديث الجنة والسلطة
بقلم : عبد المطلب أعميار
عندما خاطب عبد الإله بكيران جموع مؤتمريه ” واش بغيتو الجنة أو الحكومة؟” لم يكن الرجل خارجا عن الرقعة ” الطبيعية” التي يشتغل داخلها وعن المساحة الإيديولوجية التي تؤسس لطبيعة مشروعه السياسي. رقعة الخلط البراغماتي بين الدين والسياسة.
تطويع الحكم من أجل الدين، وتطويع الدين من أجل الحكم. هي ليست رقعة ” الأصالة” كما قد يتوهم البعض، ولا هي رقعة السلفية الإصلاحية ، ولا رقعة العدالة، ولاهي رقعة التنمية،ولاهي رقعة الخصوصية أو الهوية المغربية .إنها رقعة المشروع السياسي الذي يتأسس على أدبيات الحاكمية من أجل إقامة نموذج الدولة الدينية. تلك التي سماها مؤخرا الريسوني بالتدرج من الخلافة الناقصة إلى الخلافة الكاملة.
حديث الجنة يضع الزعيم السياسي وسيطا بين الناس والسماء، بين الأتباع والدار الآخرة.هو زعيم يعيد للأذهان سلطة الكنيسية التي توزع صكوك الغفران.
هو حديث يعيد إنتاج الصفقة السياسية المغلفة بالايديولوجية الدعوية. فيما الزعيم السياسي في الدولة الحديثة الديمقراطية، دولة التعاقد المدني،لا يلعب دور الوسيط بين السماء والأرض، بل يلعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة.. فالزعيم السياسي في الدولة العصرية لا يضمن الجنة، ولا يتحدث عنها. بله أن يخاطب الناس بشأنها. فحتى إذا فشل مشروع السياسي ، فان السياسة هي المنهزمة وليس الدين.
غير أن السياسي- الفقيه في المجتمع المشرقي يصر على أن يستغل الجنة لتطويع وتجييش الأنصار، وربح الأصوات في الانتخابات…فان تحققت الأغلبية ، فهي ليست من أجل التداول على الحكم ، بل هي إيذان للغلبة والتمكين والنصرة. إنها خدعة السياسة المغلفة بالدين. توهيم الناس بأن ما يفعلون لهو من صميم المقاصد الشرعية، وأن مهمة الزعيم ، والحالة هاته، هو الوصاية على الجماعة، والنيابة عنها باسم الفردوس. ما معنى إذن أن يصر بنكيران على مخاطبة جموع مؤتمريه ليذكرهم بالجنة؟. إن الجنة في هذا المقام، في حديث الزعيم، ليست منتهى، ولاغاية في ذاتها.
إنها وسيلة لبلوغ السلطة، أي الحكم. والوصفة هي اللعب على الأحاسيس الدينية للناس.
فتصبح طاعة الزعيم واجبة باسم الدين، ويتحول حديثه عن الجنة والحكم إلى مقدس… لا أدري كيف استحضرت ذاكرتي ما علق بها من تفاصيل ” رسالة الغفران ” لأبي العلاء المعري. ة
وهي رواية تخييلية تفصلها عنها عشرة قرون مضت، وهي من الأعمال الإبداعية الجريئة في تاريخ الثقافة العربية، وتحكي يوميات رجل اسمه ” ابن القارح”.
الرجل الذي دخل الجنة بالوساطات، فعاش فيها مجالس الأكل، والشرب، والغناء،واللذات، والملاهي، والتقى فيها الشيطان، والملائكة، والجن، والجاريات، والحيوانات،وشعراء الجحيم…ليخرج منها بعد ذلك…. ويبدو لي اليوم، بأن بنكيران يلعب اليوم لعبة أبي العلاء المعري المغربي.
لعبة الوساطة بين الناس والجنة.
ألم يخبره الشيخ المغراوي بأنه سيستمر في الحكومة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟.
ألم يقل بنكيران نفسه بأن أبناء العدالة والتنمية خرجوا من المساجد؟،ألم يقل أمام منتخبيه أن مرجعية الحزب المتمثّلة في “المرجعية الإسلامية” و”حفظ الأمانة والصدق”، هي التي كانت من بين أبرز الأسباب في المكانة التي يتواجد عليها الحزب انتخابيا؟،ألم يقل بأن السماء إذا أمطرت فلأن الله تعالى راض على الحكومة؟..لا يبقى إذن أمام الزعيم إلا أن يذكر الأنصار بتفاصيل الجنة إلى أن تعلن نتائج الانتخابات.
إن هذه التصريحات- وأخرى- تشتغل في نفس الرقعة.في نفس المساحة. بغايات واحدة..استغلال المشترك الديني من أجل الحكم. ماذا سيتبقى من العدالة والتنمية يا ترى دون استغلال الدين؟. وأي مشروع سيقدمونه للمواطنين؟. .ينبغي أن ندرك إذن بأن خطورة المشروع الإيديولوجي للحزب الديني تكمن في اللعب على الكلمات.
إن الحديث عن الجنة ليس أي حديث.. خصوصا عندما يأتي على لسان زعيم الجماعة- الحزب. وهو الذي يفضل اللعب في رقعة الدين لعزل خصومه وتصويرهم كأقوام فاسدة.
هم يفضلون أن ينعتهم الخصوم بالحزب الإسلامي، لأنهم يعرفون بأن الرأسمال الرمزي لهذه التسمية يمكنهم من مهاجمة خصومهم بأقل الخسائر، كما يعرفون أيضا بأن “صفة الإسلامي” صفة مربحة في السياسة، لدى الرأي العام، ولدى المناصرين والأتـباع، والناخبين…فأن تكون ” إسلاميا” بالمعنى السياسي ، أحسن من أن تكون اشتراكيا، أو يساريا، أو ليبراليا….وأن تكون من أنصار الدعوة خير من أن تكون شخصا يسمونه بالحداثي أو الديمقراطي. فكل هؤلاء الخصوم أعداء الله، وكلهم علمانيون بالمعنى الذي يروجون له ، أي كفرة ،وزنادقة.فتصبح بذلك صفات العلماني، والحداثي صفات منبوذة لأنها من صناعة الغرب الكافر.
وعشية الانتخابات يقوم التذكير بالجنة في الخطاب السياسي لعبد الاله بنكيران على المزاوجة بين منطق الدعوة، وهو المنطق الذي تشتغل به الإيديولوجية الاخوانية، ومن ضمنها ايديولوجية حركة الاصلاح والتوحيد ، ومنطق الحكم باعتباره منتهى هذه الدعوة وغايتها الكبرى.
هي مزاوجة تشتغل على التعبئة السياسية من بوابة الإيمان، والتماهي الروحي مع الزعيم. وهل نحتاج إلى التذكير بأن حديث الجنة لا يفترض معارضة، ولا تشويشا، ولا تيارا، ولا مساءلة، ولا نقدا..انه بوابة الحلم الجماعي الذي يشرعن البحث عن السلطة في الدنيا. وهو امتحان كل الأتباع.
فإقامة الحكم الإسلامي، حكم الخلافة، هو الامتحان الذي يعطي للزعيم كل الحق في التذكير بالجنة.
ولو كان الزعيم- الفقيه يؤمن بالديمقراطية التمثيلية ، وبقواعدها التداولية على الحكم، لما ذكر أنصاره ب ” الجنة”.
فهل الأطياف السياسية الأخرى تمارس السياسة لترسل الناس إلى ” النار “؟.. إن سياق هذا الكلام ، يدعونا مجددا لمساءلة المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية باعتباره مشروعا يستغل الدين في العمل السياسي من خلال تصور خاص للدولة الدينية.
نموذج يعتمد ايديولوجية دعوية قائمة على التعبئة من أجل نظام الحاكمية عبر صناديق الاقتراع.
غير أن مفهوم الحاكمية نفسه ( وهو المشترك بين كل تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي) يتعارض مع الديمقراطية، شكلا ومضمونا..لقد قال عنها سيد قطب في ” معالم في الطريق” إن كانت الحاكمية للبشر، فان المجتمع جاهلي، والحاكمية العليا لله وحده الذي هو ” مصدر السلطات” لا الشعب ولا الحزب ولا أي من البشر..”… في حين أنه في الديمقراطية مصدر السلطة هو الشعب.
هذا المأزق السياسي هو الامتحان الذي يكشف تناقض القول والفعل ،التصور والممارسة لدى حركة بنكيران، وكل التنظيمات الدعوية.
فالحكم عند العدالة والتنمية لا يعترف بصناديق الاقتراع إلا إذا كانت بوابة للسلطة.وعندما يتحدث بنكيران واخوانه عن ” الشعب” ، باطلاقية وشمولية، فلأن الشعب ليس في خدمة الديمقراطية ، بمعناها التمثيلي ، بل في خدمة الحاكمية ، بمعناها الديني.
وعندما يشتكي إخوان بنكيران مما يسمونه ب ” التحكم” فهو إعلان إيديولوجي عن عدم قبول المنافسة السياسية والتي قد تنتهي بالهزيمة.
غير أن الفكر الاخواني لا يقبل الهزيمة عبر صناديق الاقتراع لأن أصوله المرجعية ترتبط بمفاهيم” الغزو” و”التمكين”…. وهي مفاهيم تناقض جوهر الديمقراطية ومغزاها، وتكشف اختناق مفهوم السياسة عند العدالة والتنمية.