البابا يفتح أرشيف الفاتيكان خلال الحرب العالمية الثانية خدمةً للحقيقة التاريخية

زنقة 20. الرباط

بقلم : الدكتور عبد الله بوصوف / أمين عام مجلس الجالية

إلى جانب الانشغال بالانتشار المخيف لفيروس كورونا والمتابعة الشعبية والإعلامية الواسعة لخريطة انتشاره، وتتبع تطور عدد ضحاياه وحالة الترقب في انتظار الإعلان عن إيجاد لقاح أو علاج يُنهي معاناة الملايين من الناس، فقد شهد العالم حدثـا لا يمكن وصفه إلا بالهام وبالتاريخي ويتعلق الأمر بفتح أرشيف الفاتيكان يوم الاثنين 2 من مارس أمام المؤرخين والباحثين، ورفع السرية عن وثائق حبريـة البابا بْيُـوس 12 أو أوْجِينيو بـاتْشيلي (1939ـ 1958).

وهي ليست المرة الأولى التي يفتح الفاتيكان أرشيفه المقدس للمؤرخين والباحثين، فقد سبق ان فتح البابا يوحنا بولس الثاني سنة 2003 أرشيف الفاتيكان المتعلق بألمانيا بحبرية بيوس الحادي عشر (1922 ـ1939) كما فُـتح ارشيف السجناء فيفترة 1939ـ 1945. بدوره البابا بينديكت السادس عشر سمح سنة 2006 بالاطلاع علي كل وثائق حبرية البابا بيوس الحادي عشر٬ وجاء دور البابا فرانسيس ليفتح أرشيف حبرية البابا بيوس الثاني عشر لتسليط الضوء على فترة مظلمة وحزينة من القرن العشرين وإعادة كتابة تاريخ فترة عصيبة مرت بها الإنسانية جمعاء.

 وتأتي أهمية هذا الحدث التاريخي بكونه يتضمن “الأرشيف الرسولي” للفاتيكان إبان الحرب العالمية الثانية بكل تداعياتها الإنسانية والعسكرية والسياسية، هو ما جعل الباحثين والمؤرخين يأملون إجابات واضحة عن العديد من التساؤلات التي ظلت معلقة منذ الحرب العالمية الثانية وخاصة موقف البابا بْيُـوس 12 أو الكنيسة الكاثوليكية سواء من النازية ومن المحرقة اليهودية أو “الهولوكوست “، وكذا  سـر “صمت ” البابا بيوس 12 عن الأمر حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى أصبح مصطلح “الأسطورة السوداء” من العناوين اللصيقة بمرحلة البابا باتشيلي.

ووفق العديد من المتتبعين فإن هذه الفترة في تاريخ الفاتكان تعتبر فترة مفصلية في القرن العشرين حيث شهدت العديد من الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ وأعادت تنظيم العلاقاتالجيوسياسية لما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، وقد شهدت هذه الفترة سيطرة الفكر الشيوعي وعلاقة ذلك على واقع كنائس شرق أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية، كما عاصرت قوانين العنصرية الصادرة في العهد الفاشي الإيطالي، بالإضافة إلى دفن منظمة عصبة الأمم وتعويضها بهيئة الأمم المتحدة. وقد تطلب قرار فتح أرشيف الفاتكان أمام العالم أكثر من 13 سنة من العمل في تنظيم وترتيب وترقيم حوالي16 مليون وثيقة و15 ألف رسالة و2500 ملف وسجل تهم فترة حبرية البابا بيوس 12.

إن وضع الأرشيف الرسولي لحبرية باتشيلي أمام المؤرخين والباحثين هو فرصة جديدة لإعادة قراءة تلك الفترة الفاصلة والمفصلية في القرن العشرين، ولعل ما يظفي لقرار فتح أرشيف ولاية البابا بيوس 12 أهمية كبرى هو الجدل الذي رافق هذه الفترة التاريخية. لقد انقسم المؤرخون ومنذ أكثر من سبعيـن سنة بين فريقن منهم من يدافع عن البابا بيوس الثاني عشر وعن مواقفه اتجاه اليهود، ومنهم من يتهمه بالمساهمة في التواطؤ ضدهم خلال الفترة النازية في أوروبا.

فالفريق الأول يعتبر بأن البابا بْيُـوسْ 12 قد ساند اليهود وساهم في حمايتهم وأن صمته كان فقط أحد أساليبه في العمل؛ ويتحججون بدليل استقباله للعديد من القادة اليهود بالفاتيكان لتقديم الشكر والعرفان مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية٬ كما نعاه أكبر القادة اليهود بعد وفاته في أكتوبر 1958 بحيث كتبت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير  “عندما عانى شعبنا الاستشهاد المروع خلال عقد الإرهاب النازي٬ ارتفع صوت قداسة البابا لصالح الضحايا…” ٬ كما نُسِـب إلى الفيلسوف الألماني كارل غوستاف هيمبل القول بأن الآلاف من اليهود نجوا من الإبادة الجماعية خلال حبرية بيوس الثاني عشر…

ويرى المدافعون عن هذا التوجه أن الفاتيكان بالفعل قدم مساعدات كبيرة لليهود إبان العهد الفاشي ـ النازي وخير دليل اتهام ” المُونْسنيور أوتافياني” بتزويره لبطاقات شخصية لفائدة اليهود وبالعمل على إخفائهم بالكنائس وغيرها من الأماكن التابعة لهم٬ ومساهمة مقربين من البابا باتشيلي للعديد من المشاهير اليهود في مجالات علمية مرموقة بالهروب خارج إيطاليا في اتجاه بلجيكا أو سويسرا أو أمريكا الجنوبية…أكثر من هذا، فهناك من يقول بفشل خطة النازيين لاغتيال البابا بيوس الثاني عشر وبأن اليهود بـروما لقبوا “بيهود البابا”.

لكن ظل الفريق الثاني متمسكا باتهامه “لصمت” البابا بيوس الثاني عشر، خاصة يومي 15 و16 أكتوبر 1943 حيث نقل قطار مكون من 28 عربة اكثر من الف يهودي من محطة القطار بروما في اتجاه معسكرات الإبادة الجماعية النازية أو الهولوكوست“؛ ويقـول الحاخام الاكبـر لروما “روبيرتو دي سينيي”.. لم تكن هناك نية واضحة لوقف قطار 16 أكتوبر…“.

كما يرى الطرف المعارض للبابا بيوس الثاني عشر٬ أيضا بأن كل تلك 4 الآلاف طلب مساعدة من اليهود للبابا باتشيلي هم كاثوليك من أصل يهودي فقط٬ وأن البابا ظل ساكتا طيلة (30ساعة) مدة احتجاز أكثر من ألف يهودي بثكنة عسكرية في روما في انتظار ترحيلهم لمعسكرات الإبادة الجماعية….

لذلك يمكن القول بأن دراسة الأرشيف الرسولي لحبرية باتشيلي تتطلب أكثر من عشرة سنوات لذلك لا يجب التسرع بإطلاق أحكام في هذا الاتجاه او آخـر، وهو نفس الأمر الذي دفع الحاخام الأكبر لروما “دي سينيي بالدعوة إلى إعطاء الوقت للمؤرخين لقول كلمة الفصل.

ولأن الفاتيكان يردد دائما انه لا يخاف من التاريخ، فقد وعد البابا فرانسيس في مارس من سنة 2019 بفتح أرشيف الكرسي الرسولي المتعلق بحبرية البابا بيوس الثاني عشر وهو ما تم بالفعل يوم الاثنين 2 مارس 2020، مما جعل منه بكل المقاييس يوما تاريخيا حيث ستُـعاد كتابة مرحلة غيرت مجرى التاريخ.

وبهذه المناسبة من اللازم التذكير بدور السلطان محمد الخامس في حماية اليهود المغاربة وإنقاذه 250 الف يهودي مغربي برفض تسليمهم لحكومة “فيشي” الموالية للنازيين من أجل ترحيلهم الى معسكرات الإبادة الجماعية وقولته الشهيرة ليس لدينا يهود لكن لدينا رعايا مغاربة…“.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد