بقلم : الدكتور عبد الله بُوصـوف | أمين عام مجلس الجالية
بعيـدا عن كل الألـقاب الـوظيفية و الانشغالات المهنية ، فإن لقب ” مواطن مغربي ” يعطينا كل الحق في المساهمة في كل نقاش عمومي جاد يُضيء طريق المستقبل و ينشر الأمـل بين أبناء وطني…
و الأكـيد – كما جاء في خطاب العرش 2019 – ” إن نجاح هــذه المرحلة الجديدة يقتضي انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية ، في إعطاء نفس جديـد، لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا….”
لــذلك فإننا نعتقـد ان كل نقــاش عمومي جــاد و موضوعي يــدخل في ” مفهوم التعبئة الجماعية ” و المساهمة الإيجابية بروح المواطنة الفاعلة ، هــو شيء محمود يجب تشجيعه و رفعه الى مرتبة الـواجب الوطني ، مادام الهدف هو السعي الى تحقيق مصلحة الوطن و المواطن التي تسمو فــوق أي اعتبار سياسي او أيديولوجي…
و نستحضر اليـــوم ، هـذا الكلام و نحن نعيش نقــاشات عمومية تتعلق بمشروع التنموي الجديد الذي نادى به جلالة الملك محمد السادس ، وخصص له جزءا كبيرا من خطاب العرش لهذه السنة…
و جديــر بالتنبيه أيضا ، بان المغرب هــو الدولة الوحيدة على المستوى العربي و الافريقي التي قامت بمثل هذه القراءات الجريئة لماضيها للتخطيط و لــبناء المراحل المستقبلية عن طريق تكوين لجان تفكير ، فبعـد التقرير الخمسيني لسنة 2007 ، ها هو مشروع النموذج التنموي الجديد و الذي سيُعهد للجنة ملكية خاصة للتفكير في التصورات الممكنة لمغرب يتسع لجميع أبنائه تحت سقف العدالــة الاجتماعية و التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و المؤسسات الديمقراطية و الوحدة الوطنية و الترابية….
فموقع المغرب الجغرافي المهـم و تاريخه المشرف يجعل منه رقما مهما في قلب كل المعادلات و الاحداث الـدولية … كملفات الهجرة و اللجوء و البيئة و محاربة الإرهاب و الجريمة الدولية المنظمة و غيرها من الملفات الساخنة جدا…
وهــو ما يعني ان النموذج التنموي الجديـد ، يجب أن يـأخـد بعين الاعتبار البُـعـد الجغرافي الدولي و التاريخي و السياسي أيضا ، و ان يُجيب على كل تحديات عصر العولمة و الحروب التجارية و البيئة و عــوالـم الويب والذكاء الاصطناعي….
النموذج التنموي الجديد ، يجب ان يُجيب على تساؤلات التنمية الاجتماعية و الاقتصادية بالمغرب من جهة ، و على تفاعلات السياسات المالية الــدولية و الشركات العالمية و التكثــلات الاقتصادية و السياسية الــدولية الكبرى من جهـة ثانية…
و هــذا يعني ضرورة النظر الى التجارب الدولية في هذا المجال ، و قــد سبق للمغرب سنة 2004 ان استلهم مفهوم العدالـة الانتقالية من دولة جنوب افريقيا، وهــذا لا يُـقلل من شأن المغرب ، بــل هــو دليـل على انفتاح المغرب على كل التجارب الناجحة ، لكـن مع احتــرام الخصوصية المغربية..
و حتى لا يتحول النقاش العمومي الى صالونات استعراضية تتحكم فيها عوامل الانتماء السياسي او النقابي او الفكري… فلا بــد من التجرد و التحلي بالمسؤولية و المواطنة الفاعلة من خلال البحث في أوراق بعض التجارب السابقة و استلهام مقترحات و أفكار تخدم روح وفلسفة النموذج التنموي الجديد بالمغرب..
ففي غشت سنة 2007 أعلن نيكولا ساركوزي عن تشكيل لجنة رئاسية هــدفها البحث في تحريــر التنمية الاقتصادية بفرنسا ، و كلف بــرئاسة أشغالها السيد جاك أطــالي ، اليساري والمستشار الاقتصادي للرئيس السابق فــرانسوا ميتــران…و حدد ربيع 2008 كموعد لتسليم تقرير اللجنة….
و بعـد أقـل من خمسة أشهـر ستُـقدم ” لجنة أطـالي ” في يناير 2008 أكثــر من 300 مقترح لإقــلاع اقتصادي فرنسي و لتحديث فرنسا و تحسين عناصر المنافسة الاقتصاديــة ، مع تقـديم تقريــر مُفصل عن كيفيــة مرور المحادثات و ظروف نقــاشات الأعضاء الــذين بلغــوا 43 عضوا بما فيهـم الرئيس جاك أطـالي ، و إبــراز النقط الخلافية خاصة مضمون الفصل الخامس من الدستور الفرنسي و المتعلق باحترام البيئــة و الــذي وصفه بعض أعضاء اللجنة بانه يُـعيق التنمية ، كما أشــاد التقرير باحترام مباديء الاستقلالية و حرية الرأي التي طبعت اشغال لجنة أطالي و عــدم التأثير في أجنـدة حكومة فــرانسوا فيُـون أنــداك ، و التي عملت على تصريف مقترحات اللجنة في شكل قوانين أو مراسيم بعد مصادقة البرلمان عليها….
هنــاك العديــد من الملاحظات المهمة أولهــا ، أن الرئيس نيكولا ساركوزي نفسه ، استلهـم فكـرة اللجنة من لجنة الجنرال ديغول سنة 1959/1960 أو ما عُـرف بلجـنة جاك رُوْيـف و لــويس أرمونـد…
ثانيــا ، ان الانتماء السياسي للرئيس ساركوزي أي وسط اليمين ، لم يمنعه من تعيين اليساري جاك اطالي على رأس لجنة ستحدد مستقبل و مصير فرنسا…وهــنا نلاحظ سمو مصلحة الــوطن على كل مصلحة بلون سياسي أو أيديولـوجي…
ثالثــا ، ان ساركوزي طالب بالتحفـظ على أشغــال اللجنة ، رغــم أن لجنة أطالي لــم تكــن فرنسية خالصة ، إذ ضمت شخصيات سياسية و اقتصادية و مالية و اكاديمية و كذا نفسانيين و روائيين وجامعيين فرنسيين و من دول أوروبيــة مختلفة من إسبانيا و السويد و بريطانيا و النمسا و إيطاليــا ، حيث ضمت مثلا ماريو مونتي رئيس جامعة بـوكوني بميلانو و مفوض في الاتحاد الأوروبي و الذي سيخلف بــرلوسكوني على رئاسة الحكومة الإيطاليــة ، كما ضمت فرانكــو بسـانينـي وزيــر الوظيفة العمومية الإيطالي السابق ، و الــذي قــام بإصلاح جذري لــقطاع الإدارة العمومية الإيطالية في 1998/1997 بالإضافة الى رؤساء مجموعات صناعية و اقتصادية و بنكيــة ، كما كان ايمانويل ماكــرون عضوا في لجنة أطــالي و الــذي سيُصبح رئيسا للجمهورية الـفرنسية سنة 2017….
رابعــا ، ان فــرنسا تعمدت إلحــاق غير الفرنسيين في رسم معالـم مستقبلها و تنافسية اقتصادهـا ، لأنها تــؤمن ان شركائها في الاتحاد الأوروبي هــم أيضا شركاء في بنــاء مستقبلها و نــوع من جس النبض لمصداقية اختياراتها المستقبلية و الاستفادة من إضافات معرفية و علمية حتى ولو كانت من غيــر الفرنسيين….
اننا نعتقـد دراسـة النماذج السابقة في مجال إعداد لجان التفكير كلجنة جاك أطالي الفرنسية مثلا ، تحمل العديـد من عناصر الاستفادة سواء من حيث الهندسة و الفعالية و التجرد ، أو من حيث الـكفاءة و إستحقاق الفعاليات المعنية و تفــانيهم بــدون مقابــل مـادي يُـذكــر…
فــقد كان هاجس خدمة المصلحة الوطنية الفرنسية و الأوروبية و التفاني في الاجتهاد و الابتكار يفـوق كل عائد مادي أمام دخول التــاريخ و خدمة الــوطن…
كما أنها دراسـة تُمكننــا من الخروج بـالعديد من الاستنتاجات و الخلاصات الهامة ، كأن النموذج التنموي القـادم يجب ان يعطي مساحة لائقـة للبعـد الافريقي و يحمل عناصر للعمق الافريقي الى جانب البُعـد الأوروبي و العالمي ، و الــذي يعــود بطبيعة الحال بالخير على الوطن و المواطن المغربي و نموذج تنموي يُجيب بكل واقعيـة على كل انتظارات المواطن المغربي في العيش الكريم و العدالــة الاجتماعية تحت سقف واحد لا يعــرف فــوارق اجتماعية بــل سقف بيت مشترك و آمنا اسمه مغرب الجميع…
فـالمطلوب هو الكفاءة و الاستحقاق و الوطنية الفاعلــة ، لأن الأمــر ليس بنُـزهـة نُخبويـة أو استعراض مجاني لصالونات سيــاسية و ثـقافـية ، فـالمرحلة القادمة لا تتطلب رجـال أحزاب أو رجال نقابات أو رجال مجالات ثقافيــة و أيـديولوجية و تــلاويــن سياسية …
المرحلة الـقادمة تتطلب ” رجالات دولــة ” لا تعترف الا بمصلحة الــوطن و المواطــن ، و التي تسمو على كل مصلحة حزبيــة أو سياسيــة أو فـئويـة ضيقـة….