بقلم : أحمد عصيد
عاد القوميون العرب والإسلاميون من التيار الإخواني ـ “حركة التوحيد والإصلاح” خاصة ـ إلى سابق عهدهم من اعتماد الغوغائية والإشاعة بغرض الإساءة إلى حركة ذنبها الوحيد أنها تخالفهم في المنطلقات والمرجعيات والأهداف، وترمي عكس ما يسعى إليه التطرف الديني والعرقي إلى بناء دولة القانون والمواطنة والمساواة في بلدنا المغرب.
أقول “القوميون العرب والإسلاميون”، لأن هذا الموضوع لا يهمّ سواهم، ما داموا وحدهم من صنعه ويروّج له، حيث يزعم هذان التياران بأن بين الحركة الأمازيغية (كذا) ودولة إسرائيل “مخطط” مدروس وقائم مع سبق الإصرار والترصد بغرض إحداث تمزق في النسيج الوطني المغربي، وظهر بعض المواطنين ممن أصبح ديدنهم الصراخ بهذا المخطط والتنديد به والتحذير منه، وبوصفي واحدا من بناة الخطاب الأمازيغي بالمغرب، والذي خبر الحركة الأمازيغية تنظيماتٍ و أشخاصا، وعاش مختلف مراحل تطورها عن كثب، أتقدم أمام القراء الأعزاء والرأي العام الوطني بالمعطيات والأسئلة التالية:
أولا إننا نتفهم مشكلة التيارين الإيديولوجيين معا، فالتيار القومي العربي شهد بأم عينه انهيار الأنظمة العسكرية الراعية له الواحد تلو الآخر، وشعروا بالمهانة والحرقة وهم يرون زعماءهم التاريخيين يُمسك بهم من الجحور ومجاري المياه العادمة، كما نلتمس عذرا للإسلاميين الإخوانيين بسبب الفشل الذريع الذي منيت بها تجاربهم السياسية التي قادوها بعد ربيع 2011 ، وانقلاب الشارع عليهم في انتفاضات حاشدة لم تشهد مصر وتونس وليبيا مثيلا لها منذ عقود طويلة، حيث لم تؤد مشاركتهم في الحكومات إلا إلى مزيد من الكوارث، دون أن ننسى وقوع الأنظمة النفطية الراعية لهم في أسوإ الأوضاع، بعد حصار قطر واضطرار السعودية بضغط من أمريكا إلى التراجع عن دعم التطرف الديني عبر العالم، والشروع في مسلسل علمنة انطلق مع إتاحة الحريات الفردية والجماعية.
إننا نتفهم الأوضاع النفسية للقوميين والإسلاميين، ولهذا نشفق عليهم عندما نستمع إليهم وهم يبحثون عن كبش فداء لتبرير فشلهم وتهافت أحلامهم التي لم تكن في يوم ما قابلة للتطبيق.
ثانيا إن الزعم بوجود “مخطط” بين حركة مدنية كبيرة ودولة عسكرية أجنبية أمر خطير بحاجة إلى أدلة ووثائق، فما هي الأدلة التي بحوزة القوميين والإسلاميين ؟
إن الدليل الوحيد الذي يقدمونه لا يقنع حتى الأطفال، وهو وجود بعض الأفراد الأمازيغيين الذين زاروا إسرائيل، وعددهم لا يتعدى خمسة أو ثمانية أشخاص، وفي هذه الحالة علينا أن نذكر هؤلاء بالمعطيات التالية:
ـ أن الإحصائيات الإسرائيلية تقول بأن عدد المغاربة الذين يزورون إسرائيل كل عام يصل إلى 28000 مواطن ومواطنة، ومنهم رجال أعمال وفنانون وبرلمانيون من الغرفة الأولى والثانية وأعضاء من أحزاب سياسية إضافة إلى موظفين سامين وفاعلين في مختلف المجالات، فإذا كان الأمازيغيون الذين زاروا إسرائيل والذين لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة قد صرحوا بزيارتهم ونشروا صورهم بدون تحفظ، فمن هم الـ 27995 المتبقون ؟ وإذا اعتبرنا ـ كما يزعم القوميون والإسلاميون ـ بأن هؤلاء الأمازيغيين يمثلون حركة يصل عدد جمعياتها إلى 1200 جمعية، فهل آلاف المغاربة الآخرين يمثلون المؤسسات والتنظيمات التي يتواجدون بها ؟ هل يمثل البرلمانيون المغاربة الذين زاروا إسرائيل المؤسسة التشريعية المغربية ؟ وهل يمثل رجال الأعمال المقاولة المغربية ؟ وهل يمثل الفنانون المغاربة من أجواق الطرب الأندلسي والملحون مثلا الجمعيات الموسيقية المغربية ؟ لماذا الأمازيغ وحدهم من اعتبروا ضالعين في “مخطط” بين “حركة” مدنية ودولة إسرائيل ؟ هل من حقنا أن نخصّ الأمازيغ وحدهم بهذه التهمة فقط لأنهم صرحوا بالحقيقة بينما الغالبية العظمى من زوار إسرائيل يفضلون النفاق والكذب والتستر ؟ أليس سلوك الأفراد الأمازيغيين النزهاء أكثر مصداقية من سلوك الآلاف المؤلفة من المنافقين ؟
لقد سبق لخطباء مساجد كذابين لا يليقون بمنابر الخطبة أن نطقوا إسمي في خطب جمعة قائلين للمصلين إنني زرت إسرائيل، فهل يعتقد هؤلاء الغوغاء حقا بأنني لو فعلت ذلك سأفعله متسترا ومنافقا كهؤلاء الذين يفعلون ثم يحرصون على حضور “مسيرات التضامن مع فلسطين” ؟
إن الحركة الأمازيغية متنوعة متعددة المكونات، وأساس العمل فيها الحرية والنسبية والعقلانية، ولذلك فالأفراد الذين زاروا إسرائيل بشكل شخصي وأعلنوا عن ذلك إنما عبروا عن مواقفهم الحرة التي لا حق لأحد في أن يكرههم على غيرها، ولم يسبق للحركة الأمازيغية أن ناقشت هذا الموضوع تنظيميا مع أعضائها، وإنما تركت الاختيارات من هذا النوع لميول الأشخاص. ما يعني أنّ مواقف الأفراد كمثل التصويت لحزب معين في الانتخابات أو التعاون مع تنظيم سياسي أو نقابي أو الذهاب إلى إسرائيل أو زيارة الكورد، ليست مواقف تنظيمية لجمعيات أو لرؤساء تنظيمات قاموا بها ممثلين للهيئات التي يعملون بها، حتى يتحدث البعض عن “مخطط إسرائيلي” مع “الحركة الامازيغية”.
ثالثا ما هو موقفنا من إسرائيل ومن القضية الفلسطينية بوصفنا حركة مدنية ديمقراطية تعمل على بناء دولة الحق والقانون وإحقاق المواطنة والحياة الكريمة لجميع المغاربة، وترفض الظلم وجميع أنواع الاحتلال والغزو وانتهاك كرامة الشعوب ؟
لا يعرف الكثيرون بأننا كفاعلين مدنيين شاركنا في مسيرة حاشدة للتضامن مع فلسطين سنة 2002، وكان ذلك بطلب من السيد خالد السفياني، الذي أكدنا له بأننا لسنا ضدّ حق الشعب الفلسطيني في الكرامة والاستقلال، وأننا نقر بوجود احتلال ومستوطنات غير قانونية على أرض الفلسطينيين، وبوجود معتقلين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية يعاملون معاملة مهينة يتم فيها خرق جميع القوانين والأعراف الدولية، وقد ساهمنا في المسيرة بتسع لافتات مكتوبة بالأمازيغية عبرنا فيها عن موقفنا الإنساني الداعي إلى وقف العدوان والقصف وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، كما دعونا إلى استتباب السلم في الشرق الأوسط وإقامة أنظمة ديمقراطية ترعى حقوق المواطنة لشعوب المنطقة، غير أننا فوجئنا خلال المسيرة بشعارات ومواقف صادمة أقل ما يقال عنها أنها غريبة عن ثقافتنا، حيث قرأنا في لافتة: “الدم العربي يغلي في الرباط” وفي أخرى “فلسطين قضية العرب الأولى”وسمعنا “خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود”، وغيرها كثير من الشعارات التي لا تهدف إلى الدفاع عن فلسطين ولا إلى معارضة الاحتلال الإسرائيلي بل تسعى إلى تكريس النزعة العرقية العربية وإشاعة الكراهية الدينية ضدّ اليهود، وقد استنتجنا منذ ذلك الوقت بأن مسيرات التضامن مع فلسطين يحتكرها تياران إيديولوجيان كانا معا وبالا على القضية الفلسطينية، وقررنا التضامن مع فلسطين بطريقتنا: أن القضية الفلسطينية قضية تحرّر شعب محتل، وهي بذلك قضية إنسانية تتجاوز العرب والمسلمين، وتستحق أن تتضامن معها كل شعوب الأرض، وأن اليهود إذا كانوا قد تعرضوا لأنواع التنكيل والاضطهاد في تاريخهم، فإنهم لا يحق لهم ممارسة نفس الشيء على غيرهم. ونحن بوصفنا أمازيغيين نتضامن مع الشعب الفلسطيني كما نتضامن مع كل الشعوب المضطهدة على الأرض، ونستغرب لسكوت العرب والإسلاميين عما وقع لشعوب كثيرة تعرضت للإبادة ـ ومنهم الشعب الكوردي ـ دون أن يحرك القوميون العرب والإسلاميون ساكنا.
إننا نعلم بأن إخواننا القوميين والإسلاميين يعتبرون بأن هذا النوع من التضامن لا يفيدهم في شيء، لأن غرضهم استغلال القضية الفلسطينية في استقطاب الأتباع لدعاواهم العرقية والدينية، وليس لنا إلا أن نخبرهم بنزاهة وأمانة بأن التضامن مع فلسطين تحت راية القومية العربية أو الإسلام السياسي الإخواني والوهابي لا ينسجم مع اختياراتنا الفكرية والحركية، ولا نستطيع الدخول فيه معهم، ونفضل التضامن مع فلسطين بطريقتنا.
رابعا من الأمور التي ينبغي أن يفهمها القوميون والإسلاميون أن اليهود المغاربة الأمازيغ الذين يتواجدون بمختلف بقاع الأرض ومنها إسرائيل، هم يهودنا الذين لا يمكن أن نتخلى عنهم، لأن الأمر يتعلق بتعايش امتدّ لأزيد من 2500 سنة على أرض المغرب، قبل مجيء العرب بقرون طويلة، وقد أخرج اليهود من أرضهم ما بين نهاية الخمسينيات إلى سنة 1963 بتحريض كبير من حزب سياسي كان يحتكر الوطنية والحديث باسم الإسلام، ونجحت المنظمات الصهيونية في إقناعهم بالرحيل بسبب التغير الكبير الذي طرأ على سلوك المغاربة تجاههم بعد إنشاء دولة إسرائيل عام 48.
إن اعتبار القوميين والإسلاميين تعاملنا مع اليهود الأمازيغ القادمين من خارج الوطن “تطبيعا” مع دولة إسرائيل هو ضرب من العبث لم نعد نلتفت إليه لتفاهته، وإننا ندعو جميع يهودنا إلى العودة إلى المغرب سواء من أجل الإقامة والحصول على بطاقة التعريف الوطنية، أو من أجل الاستثمار أو السياحة أو الإسهام في الأنشطة الثقافية والعلمية، ونخبر إخواننا القوميين والإسلاميين بأن هذا الموضوع غير قابل للمساومة ولا للتهريج، وإن كان قصدهم ممارسة الوصاية علينا وإدخالنا تحت راية شعاراتهم التي لا نؤمن بها، فليعلموا بأن معنى كلمة “إمازيغن” هو الأحرار، ونحن على أرضنا وفي وطننا نستقبل من نشاء ونقاطع من نشاء، والسلام.