من يقاوم إصلاح وانفتاح الإعلام العمومي في المغرب؟
شكلت وسائل الإعلام منذ إ دراك قيمتها الوظيفية، أداة خطيرة وحاسمة في يد الأنظمة السياسية والتجمعات الإعلامية الضخمة، ولذلك لم يكن من السهل ولا من المتوقع أن تقدم الأنظمة تنازلا، يفسح المجال أمام إمكانية إعطاء الكلمة لمن يعارضونها، أو يدورون في فلك يعاكس مجراها، والأدهى من هذا أن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العديد من البلدان، وخاصة العربية، غالبا ما كان وهميا، ومفترضا لأنه كان موجودا في وسائل الإعلام فقط.
هذه الوسائل/ الوسائط، أبدعت أيما إبداع في تنظيم التعتيم، وتسويق مشاعر الهدوء العام، والانسجام بين المواطنين وأجهزة الدولة، مثل ماكان عليه الحال في تونس ومصر، بيد أن العواصف السياسية، والرجات الديمقراطية، والثورات الشعبية التي اندلعت في العديد من الدول العربية، خلقت وقائع، وواقعا جديدا، بات معه من الصعب أن تسند لوسائل الإعلام، نفس الوظائف الميكافيلية، وبات من الحتمي على الأنظمة السياسية، ، أن تغير سلوكها ومقارباتها، وذلك بإعلان القطيعة مع السلوكات والتصورات والعقليات المتحجرة والمؤمنة بالتعليمات وعبر الاستعداد الفعلي للاندماج في نسق وسياقات التحولات الجارية، التي أفرزت حماسا ونفسا ديمقراطيا وسط الشعوب، وأذكت لديها الرغبة في أن يكون لها موقع في أجهزة الإعلام، وأن تكون شريكا وفاعلا، لا أن تبقي مجرد عنصر سلبي محايد ومنذور للاستهلاك والاستسلام.
ويجوز القول هنا، إن وسائل الإعلام الرسمية وعلى امتداد عقود من الزمن، لعبت دروا سلبيا وارتكبت جرائم شنيعة في حق الشعوب، وكان ماقام به التلفزيون المصري الرسمي طيلة أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، أبشع فصل في التضليل والكذب والتعتيم والغباء والبلطجة الإعلامية المفضوحة. فيما لعبت فضائيات أخرى دور المنقذ المحرر، لأنها بقدرتها وقوتها الضاربة، ساهمت إلي حد كبير، في فك العزلة عن الشعوب الثائرة، وقدمت صورة مغايرة وحقيقية لما كان يجري على الأرض.
في المغرب، وبالنظر إلي تراكم نسبي، في مجال التعددية السياسية والإعلامية، مقارنة مع بعض الدول العربية، يبدو المشهد ملائما إلى حد ما، لإحداث الإصلاح المطلوب والانفتاح الفعلي والإشارة هنا إلى الإعلام الرسمي، الذي سبق له أن فتح نوافذ ضوء في فترات تاريخية معينة، لكن هذا الفتح أو الانفتاح، إذا صح التعبير، كان رغبة مزاجية، ولم ينبع من إرادة سياسية لتدشين النقلة الإعلامية الضرورية واللازمة، لتجسيد واقع التعددية، ونقل تفاعلات المجتمع.وظل الإعلام العمومي، بتلفزاته وإذاعاته، محافظا وملتصقا بمناعة سميكة خشية، أن تخترقه رياح التغيير، فرغم التعديلات القانونية والهيكلة، ودفاتر التحملات التي صيغت، والشعارات التي رفعت،. فإن ما يلاحظه المراقب، هو أن حالة من المد والجزر ظلت تهيمن علي التقاليد الإعلامية الرسمية في المغرب، ، فأحيانا نجد مساحة لا يستهان بها من الحرية، في تناول قضايا دقيقة ومصيرية ترتبط بهموم المجتمع، وأحيانا تنتصب أمامنا موانع وحواجز، وتراجعات غير مفهومة، وكأن أصحاب الحال والمتحكمين في تلفزاتنا العمومية يبلغوننا الرسالة التالية = إن الإعلام وخاصة التلفزيون، سلاح خطير، وأداة تحريض قد تدفع المتذمرين لمجرد وقوعهم تحت تأثير سلطة الصورة، إلى الانفجار والهيجان=.
إن المهم والأساسي هو أن تكون العقلية التي تتحكم تمويليا وإداريا وتدبيريا، مستعدة لتطليق العادات البائدة والعتيقة، في الممارسة الإعلامية، وأن تكون مدركة ومتمثلة، لحيوية وأهمية الرهانات المعقودة على الإعلام، وفي المحل الأول التلفزيون، لأنه الوسيط الإعلامي الأقوى، والأسرع انتشارا وتغلغلا، في أوساط الجمهور، على اختلاف شرائحه وأذواقه ونزوعاته
اليوم، وقد حدثت أحداث وحصلت تحولات جذرية في المنطقة العربية، وانبثقت في المشهد الوطني المغربي، معطيات وثقافات مغايرة، لم يعد من المنطقي في شيء أن يبقى الإعلام العمومي المغربي، بكل مكوناته، سجين النظرة الأمنية الضيقة، فلا الهاجس الأمني بمستطاعه أن يحصن المجتمع، ويؤمن الاستقرار، ولا المقاربة الجامدة أحيانا، بمقدورها أن تساهم في تطوير وإرساء قيم ديمقراطية، وسلوكات ثقافية وسياسية حداثية.
إن الإعلام العمومي المغربي، ، مطالب بأن يتمرد على ذاته، أن يطلق نزعة الإخفاء والتستر، وأن ينظر إلي ما يدور في محيطه الوطني الإقليمي والدولي، فالكاميرا تفضح ذاك الذي تريده الأنظمة أن يظل مكتوما، ومتطلبات الجمهور تحتم على وسائل الإعلام نقل الحقيقة ورصد الواقع، وتسجيل الأحداث، كما تقع على الأرض، في إطار تأمين الحق في الوصول إلى الخبر، إضافة إلى هذا، الانقلاب الجذري في التقاليد الإعلامية الدولية، يدفعنا إلي إعادة الاعتبار للمضمون والشكل، والبحث عن طرق جديدة في التدبير والتسيير، بهدف حشد أسباب وشروط مجتمع الإعلام والمعرفة التقنية.
ومن هذا المنطلق، واستنادا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، الضامنين للحق في التعبير والإعلام، وبالنظر أيضا للوعود التي أطلقتها السلطات الرسمية المغربية في مناسبات عديدة، ، والقاضية بإصلاح الإعلام العمومي، وتكريسا لحق المواطن في أن يتمتع بإعلام عمومي شفاف ومتفتح، فإن مطلب دمقرطة وسائل الإعلام العمومية، وإصلاحها وجعلها في خدمة المجتمع كمطلب لا محيد عنه، وهو ضروري لتقدم المغرب، نحو نظام ديمقراطي حقيقي، والعمل على تمكينه من وسائل إعلام جماهيرية، تتمتع باستقلاليتها المهنية، وانفتاحها على كل الآراء، وقدرتها على تطوير الطاقات والإبداعات الوطنية، والاندماج في الثورة الإعلامية العالمية.
وهنا لابد أن نسجل بلغة واضحة وصريحة، أن استمرار احتكار الإعلام العمومي من قبل الدولة، حيث تتحكم بصورة مطلقة في شتي مرافقه، ومؤسساته، ولا تسمح بأي مشاركة ديمقراطية في تسييره، واستمرار توجيه فوقي ذي طابع سلطوي رسمي، متخلف يطغي عليه طابع الجمود وانعدام المبادرات المهنية، ولا يسمح بالانفتاح، إلا بقدر مخدوم ومدروس وموجه. يطرح ملحاحية واستعجالية تغيير المسؤولين على تدبير قنوات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية والقناة الثانية دوزيم، لأنه لايعقل مطلقا أن يظل هؤلاء على رأس مؤسسات إعلامية جعلوها تعيش حالة من الغيبوبة وتقيم في جزيرة الوقواق، خاصة وأن هناك إجماعا وطنيا على حالة التردي واللامهنية التي وصل إليها القطب العمومي.وسيكون من الأخطاء القاتلة أذا اعتقد من يفترض فيهم أنهم المتحكمون في الإعلام العمومي، أن ماهو موجود هومايجب أن يكون، وأن العناد واللامبالاة هما أفضل وسيلة للمقاومة والاستمرار في نفس الخط، كما أنه سيكون من الأخطاء المدمرة والمكلفة، المراهنة على عامل الزمن أو توظيف سلاح الحماية من جهة عليا ما، بمعنى أن هذا المسوؤل أو ذاك هو جزء من محيط الملك، ومادام الأمر كذلك فلا احد يستطيع إزاحته من موقعه، حتى لو كان كل رصيده هو الأخطاء، وحتى لو نهض كل المجتمع في وجهه.علما أن هؤلاء المسؤولين الذين عمروا سنوات طوال في مناصبهم دون محاسبة ولا مساءلة، هم أكبر عائق في وجه أي إصلاح وانفتاح يعودان بالفائدة على كل المغاربة، بما في ذلك صناع القرار، والذين بكل تأكيد يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية في فشل القطب العمومي، فهم الذين وضعوا عددا من الأشخاص على رأس تلفزات القطب العمومي، وبالغوا في التمسك بهم، رغم كل الانتقادات الموجهة إليهم، وكأن المغرب بلد عاقر لم يلد غير هؤلاء.
من المؤكد أن الإعلام العمومي، يجب أن يتحرك وأن ينتقل انتقالا على غرار الانتقالات الأخرى، وان يشهد مصالحة على غرار المصالحات الكبرى التي حدثت في البلد، ولكن يجب أن ندرك كذلك أن هذا الإعلام المسمى عموميا، هو إعلام مغلق وسيادي بامتياز، علينا أن نأخذ في الاعتبار هذا العنصر، وإلا ستظل تحليلاتنا وقراءاتنا، وكل المجهودات الفكرية التي نبدلها، ستظل مجرد صرخة في واد. فالحكامة الإعلامية والشفافية والتأهيل، قضايا طرحت للنقاش والحوار، ولكن مع الأسف، الفاعل أو المسؤول عن الإعلام العمومي والمتحكم فيه غير موجود، وغير معروف، إنه كائن مجهول.وهذه هي المشكلة الكبيرة.
من المفترض أن تلفزة عمومية، يجب أن تنهض فلسفتها الإعلامية وبرامجها على التنوع والتعدد الثقافي والفكري واللغوي، بما يحقق قيمة مضافة، ويسهم بشكل ملموس بدفع النقاش والحوار والتناظر حول القضايا التي ترتبط بانشغالات المغاربة.
ولتحقيق هذه الأهداف يجب أن تتأسس الرؤية على مفهوم القرب، الفعال والمبدع، لتتوجه التلفزة العمومية للجميع، وان تعطي الكلمة للجميع، دون أن تستثني أو تقصي أحدا، وأن تطرح كل القضايا.
تلفزة تسعى إلى خلق دينامية مواطنة تسأل وتسائل، وتنقل الخبر وتغطي الحدث، وتثير النقاش وتعمق التفكير، بحيث الجميع يستطيع التعبير عن آرائه ومواقفه.
تلفزة تواكب التحولات وتلتقط دبدبات المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بالصورة التي تجعل منها تلفزة مواطنة، لا تهتم فقط بالربح المادي، لأنها مرفق عمومي، والبحث عن موارد لتضمن استمراريتها وتقديم خدمة سياسية تحت الطلب.
تلفزة تنخرط في المشاريع المهيكلة داخل البلد، من حيث التعاطي معها بشكل مهني وموضوعي ومن خلال إشاعة خطاب عقلاني وحداثي، وقيم تنتصر للتسامح والحوار والانفتاح والاختلاف والتعدد في الرأي، واحترام العقل.
تلفزة عمومية مجددة، تتواجه فيها الأفكار يوميا، وتتحاور فيها الثقافات، وتتعايش فيها اللغات.
قناة عمومية جريئة وفضولية، تتخيل بشكل إيجابي وبناء، وترصد مسالك المعرفة ومسارات الناس، وهي في كل ذلك مسكونة بهاجس البحث عن الحقيقة.
بدون أدنى شك، إن التلفزة العمومية في السياق المغربي، وبحكم تحديات التنمية وإكراهات المجتمع، وعوائق موضوعية وفي مقدمتها الأمية، لا يمكن إلاأن تكون في قلب الصورة، الشيء الذي يحتم عليها أن تنمي الذوق العام وأن ترفع من مستوى الأداء اللغوي، وان تساعد على عملية التواصل لتسويق المشترك من القيم والانشغالات والرهانات، وتقديم برامج تندرج في هذا المنحى، وتكريس مفهوم القرب والتعدد والتنوع والحداثة والوحدة الوطنية، والقيم الايجابية.
وارتباطا بهذا التصور، فإن برمجة تلفزية فعالة، من شأنها أن يكون لها تأثير على الأفكار وعلى المجتمع، والفعالية لا يمكنها أن تتأتى إلا عبر بث الخبر الايجابي والمعلومة الصحيحة، والمواكبة المستمرة للأحداث والوقائع، وعبر المصاحبة للتطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والتحولات التي يعرفها المغرب ومحيطه، والتعريف بمؤهلاته في شتى المجالات، وإيجاد مساحات لكل الفئات العمرية والتعبيرات والتيارات الموجودة داخل المجتمع.
وبما أن التلفزة أصبحت تشكل النشاط الأول في المنازل، وبما أن هذه التلفزة تحقق حالة إجماع حول العديد من القضايا في وقت واحد وفي زمن قياسي، فإن الاستجابة لحاجيات وانتظارات المشاهدين المغاربة، تعد مسالة حيوية وأولوية أساسية، يجب أن تتحكم في منطلقات وأسس التخطيط لكل السيا سات والاستراتجيات الإعلامية والشبكات البرامجية.
من المؤكد أن النقل الحرفي والميكانيكي، لما يوجد في المجتمع وبثه عبر قناة عمومية مسألة غير صحيحة، تنم عن رؤية شعبوية، لأنه لا يعقل بتاتا أن نبث كل شيء دون مراعاة للضوابط والمقتضيات المجتمعية، والسياسية والأخلاقية والمشاعر النفسية والقيم الأساسية للمجتمع، نحن في حاجة إلى إعلام يواجه الشارع ويؤثر فيه، وليس إلى إعلام يوجهه الشارع بكيفية شعبوية تبسيطية، وهنا لابد ان نتساءل عن سر الغضب الشديد” الذي يسود مؤسسات الإعلام العمومي، وخاصة دوزيم أليس هو احتجاج على الكيفية التي يتعامل بها المسؤولون مع انتظارات الجمهور ومع المطالب الاجتماعية والمهنية للصحفيين ومختلف الأطر، وكذا استنكارهم للتحولات التي مست القناة وغيرت من صورتها السابقة”.و مصدر الغضب أيضا هو الضبابية التي تعرفها القناة الثانية، سواء في علاقتها مع القطب العمومي، أو سلطات الوصاية”، لاسيما وأ ن مستخدمي القناة الثانية يطالبون ب”دوزيم” قوية ضمن قطب عمومي ديمقراطي ومنفتح.هل هناك مشكلة في هذا المطلب؟
هناك مفارقات غريبة في مشهدنا السمعي البصري العمومي، فالقناة الثانية كان من المفروض أن تكون هي القوة الإعلامية الضاربة وطنيا وجهويا ودوليا، بحكم الأهداف التي من أجلها أنشأت، وبحكم الهامش المهني الذي حظيت به، وبحكم كذلك النزوع الحداثي والعصري الذي راهنت عليه منذ البداية، لكنها تعرضت لعملية تحويل الاتجاه، وتم تعويم رسالتها الإعلامية بشكل يدعو للكثير من التساؤل، وكأنه كانت هناك خطة وخارطة طريق للإجهاز على خصوصية وفرادة دوزيم.وهاهي اليوم ومنذ أكثر من عقد من الزمن تعيش أعطابا واختلالات من مختلف الأنواع، ومما زاد الطين بلة هو اعتبار دوزيم مكونا من مكونات القطب العمومي، لكنها في الوقت نفسه لاتستفيد من الدعم العمومي بالشكل المطلوب وبناء على عقد برنامج، وظلت على هذه الحال وهي تتخبط ماليا عدة سنوات، ما أفسح المجال لمسؤولي القناة الثانية للاجتهاد في تحديد مهام ووظائف القناة، بما في ذلك إغراقها في المسلسلات المستوردة من كل الدول “مصرية –سورية –تركية –كورية –مكسيكيكة –هندية –أمريكية، بما فيها تلك المدرجة “من الدارجة ّ إلخ كما طوقت القناة ببرامج الترفيه المبالغ فيها، والتي وإن كانت مهمة بمنطق السوق، فإن المقتضيات التي تحكم قنوات القطب العمومي تحتم عليها أن تساهم في الرفع من الذوق العام والوعي والقيام بدور الإخبار والتناظر وطرح القضايا الكبرى والأساسية، لاتلك التي تتماشى مع درجة وعي المسؤولين أو تتفق مع أمزجتهم معللين ذلك بالقرب الإعلامي والتوجه إلى الشرائح الاجتماعية التي تعاني من الأمية أليس هذا الهروب أو التهرب كان من الممكن تجنبهما لو وفرنا للقناة الثانية الدعم اللازم، على اعتبار أنها تقوم بخدمة عمومية مع تقنين وضبط الحصص الاشهارية والأوقات التي يجب أن تبث فيها، ولربحنا الرهان الإعلامي، إن خدمة القضايا الوطنية، وبناء المواطن وتحصينه ضد المسخ الهوياتي الذي تمارسه تلك المسلسلات الغريبة عن قيمنا وثقافتنا وإنسيتنا فوق إلإكراهات المالية وتحديات سوق الإشهار، إن ارتهان دوزيم لسلطة الإشهار، هو ضرب لسيادة دوزيم ولمهنيتها ودورها وجودة منتوجها.