في نقد الياس العماري
بقلم : المصطفى المريزق
ما الذي تقوله لنا استقالتك، نحن معشر الرفاق الممانعين بكل أصناف نزعاتنا ونزواتنا وشهواتنا؟
من الذي لخبط مخك ودفعك لتضحي بمنصب الأمانة العامة، وتتركنا أيتاما، وجياعا، من دون خبز وزيت ولا سكر، ومن دون حماية سياسية، ولا رعاية اجتماعية وطبية، بعد أن وعدتنا بمناصب سامية، وبالحقوق الثقافية، وبالمساواة بين الجنسين، وبتغيير أوضاعنا الطبقية، وبالعدالة الاجتماعية، وبالتعبيرعن مصالحنا الضيقة، وتسلق المراتب بسرعة، وبزعزعة الأرواح الشريرة التي تسكننا؟
لماذا فعلتها؟
ما كان عليك أن تثبت لهم رجولتك وتتركنا عرضة للي يسوا وللي ما يسواش؟ كان عليك أن تصبر أنت حتى نكبر نحن، لتسلمنا سر أقطاب القوة، وخرائط التفجير، وفرسان الظن واليقين.
عيب عليك يا إلياس! كان عليك ألا تعصف بكياننا إرضاء لكبريائك، ولوطنيتك الزائدة، لتولّد فينا تيارات الرفض والتطرف والتشدد، ولتحولنا إلى عنصريين وعرقيين وشوفينيين، لا نؤمن إلا بأرض الميعاد: أرض جبالة بني زروال الطيبة والطاهرة.
منذ أن عرفتك هاربا من قريتك سنة 1984، حين زرتنا في ظهر المهراز نهارا، وكنتُ لحظتها في وسط حلقية جماهيرية أخطب ود الجماهير الطلابية للتضامن مع أهالي الريف، بعد الانتفاضة الأبية…، منذ ذلك الحين، وإلى غاية 2017 ، وأنت تعيش في واقع التبدلات الجذرية، النوعية منها والرثة، وأنت مجرد متمرد على القمع، ومناهض لفصائل أبو عمار وأنور السادات والحركات الأصولية، و مجرد مدمن على حب وطن مهزوم، لا يعترف إلا بمن خانه! للأسف…!
أقنعتنا بأن الهزيمة أشواط، وقطعنا معك مسافات طويلة، عرفنا فيها المغرب والمغاربة، لكن حينما عدنا، لم نجد سوى الحفر، والوحل وحرائق الورود.
لماذا هجّرتنا من حلمنا بعيون شبه مطفأة في أقبية السكيزوفرينيا، ورحنا نودع الأقبية والمخافر لنصنع لوحة صفاء برشاقة ألوان ابنتي الغالية لينة؟
لماذا أدخلتنا في “موتيفات” جديدة، وكأننا مجرمون، نحاكم على ما أفسده الدهر منذ الحماية إلى 7 أكتوبر من السنة الماضية؟
إن الذين دفعوا بالبلاد إلى مهاوي الهوان والهلاك، والضياع، هم الأذكياء! والذين تنافسوا على درجة الامتياز في التفريط والتثبيط، والسفاهة والتفاهم، فهم الحكماء والعقلاء! فهل نستحقهم؟
أشكرك على كل حال، لأنك منحت لنا “فائض الدلالة” الذي أدلنا على الوقائع الخاصة، لكي لا نسقط في الذرائعية، ولكي نعلم أن الديمقراطية التي قرأنا عنها في كتب السياسة والتاريخ، وسمعنا عنها في بلاد السيد المسيح، وتغنينا بها مع مارسيل خليفة ومولانا الشيخ إمام وغيرهما، هي وصاية قسريه في بلادنا، لا تخول من الرأي إلا الرأي المخدوع.
ما كان عليك أن تدخل عالم السياسة، وما كان على والدك أن يتركك تغادر قريتك المهجورة. فأنت مجرد ريفي، خنت أبناء جلدتك وعمومتك. فبدل أن ترحل إلى ألمانيا وهولاندا، أعماك جذب المدار القاعدي الرباطي، وإغواءات النبوة. لأن عالم السياسة الذي قصدته، هو “مقولات مزيفة” في متن وصف الواقع، مقولات تفرضها عليك وعلينا مقاييسهم الخاصة، لأن فيبر ليس من جنسيتنا، ودوركهايم ليس من ديننا، وماركوز ليس من عمومتنا، وباشلار ليس جارنا، ومالينوفسكي لم يدرسنا..
كان عليك أن تطلب يد العطف والقلب الحنون من أهل العلم والسياسة والجاه والحسب والنسب! بدل البحث عن أتباع محمد بن عبد الكريم في مصر والصين والهند. لا يا إلياس! لقد أخطأت عندما لم تضع كتب وحكم ابن عجيبة في جيبك أو في قب جلبابك، حتى لا تنزعج من الأذى والقسوة، وحتى لا تقلب أوجاع المتون الفقهية ومنظومة ابن عاشر في الفقه والأجرومية والألفية، وحتى تسلك طريق “اللهم أدم نعمة الفقر علينا ولا تجعلها نقمة علينا”.
كان عليك ألا تنسى كيف دخلت طامو الريفية إلى أحواز فاس على صهوة جوادها، لتكتشف أن للنصر حدوده، كما للإصلاح حدوده. فعلى الرغم من ضيق دائرة السياسة، استطعت وسط الإكراهات والضغوطات أن تمد اليد إلى الرفاق والأصدقاء وذوي القربى الفقراء وعائلاتهم وذويهم. عودتهم على العطف والحنان، ومساعدتهم على تحدي الحواجز والكوابح.
لقد احترمنا اختياراتك، وقلنا كلنا مغاربة، كلنا أمل، وعزم، وعمل، من أجل فتح الانسداد في الواقع، وتغييره إيجابيا ولو في حدود. إنك إنسان عظيم، وإن كنت سيء حظ.
كل واحد منا سيمضي إلى حال سبيله، نتذوق تلك القهوة السوداء، وسنقف جميعا عراة من وطأة القيظ الخانق. فلا نريد مقعدا للجلوس، ولا نريد صراخا ولا شجارا مع أحد. لا نريد اتفاقات وهمية، ولا زعامات كرطونية. نريد منك أن تقول الحقيقة، كل الحقيقة، لكي لا نجهش من فرط التأثر. إننا شعب عظيم بحق، نستحق الحياة، لكننا لا نريد التضحية. نريد من يضحي مكاننا، ومن يسجن من أجلنا، ومن يمتطي المخاطر من أجلنا، ومن يبتسم من أجلنا، ومن يركع من أجلنا، ومن يقبل الأيدي ويبوس الأقدام من أجلنا، وسيء الحظ هو خادم أسياده. أي نعم، هو من اختار في غفلة منه أن يمنح ثقته لكل مذاق لسان، وليجد فرصته فيه كل متهرئ حياء وقيم، ومتفسخ خلق ودين.
بلى، إننا قادمون وقادرون، ولكن دقة دقة، من دون ضجيج ولا حقد ولا كراهية ولا عنف ولا سب وشتم، ليس لأننا منبطحون ومسالمون، لا.. أبدا! لأن الحياة لا تحتاج للمكر والتنكر للأصول وللصداقة وللعلاقات الإنسانية، كما أن الحياة لا تساوي مقعدا انتخابيا، أو منصبا سياسيا، إن الحياة تستحق من يستحقها بعرق الجبين، وبالتواجد ليل نهار في معاركها، ومع المواطنات والمواطنين في الميدان، وليس بالسطو على أمتاع الغير، بالدسائس والضرب من تحت الحزام، واستخدام الكراكيز بالكذب أحيانا، وبالجاه والمال أحيانا أخرى…
ومهما يكن، لن أطيل عليك، فقط أريد أن أقول لك قولي هذا وأنصرف: إن الشعب غالي ونفيس، لكنه ضحية سفهائه وجبنائه وانتهازييه، وهو ما دفعني للكتابة إليك، لأخبرك أننا قادمون وقادرون على رفع التحدي، وسنكون من قوم آخر، موقع تجارب الشعوب، لرفع راية العدل والقيم، والدفاع عن الوحدة الوطنية والمؤسسات الدستورية، وسنبقى نحكم على كل الناس وتجاربهم المواطنة بإعجاب وحماس، وبنكران الذات وبالتنزه والسوية والذمة، من أجل مغرب تفاحة لا تنشطر…مع تحياتي
لنواصل معا..نعم نستطيع