الجمعية المغربية لحقوق الإنسان
بقلم : أحمد عصيد
تعيش الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ـ كبرى جمعيات حقوق الإنسان بالمغرب ـ محنة حقيقية مع السلطات المغربية، ليس فقط بسبب موقف السلطات الأصلي من العمل الحقوقي عامة ومن الجمعية بصفة خاصة، بل لأن الوقائع المتتالية والأحداث المتعاقبة قد أصبحت تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن السلطات تستهدف الجمعية في وجودها، فمنع جميع تحركات الجمعية وحظر أنشطتها الإشعاعية والتكوينية في مختلف جهات المغرب، فيما يمكن اعتباره رقما قياسيا (105 لقاء منذ يوليوز 2014 حتى يوم 6 مارس 2016)، ومنع 60 فرعا من وصولات الإيداع مع مضايقة نشطائها، واقتحام مقر الجمعية بدون مراعاة أبسط القوانين والأعراف، والتشويش على عملها باستعمال الإشاعة الكاذبة، وتسليط صحافة السخرة على مناضليها، وحتى على الفاعلين المقربين منها، يدلّ على وجود خطة ممنهجة ومحكمة، لمحاصرة الجمعية ومنعها من القيام بمهامها المعترف بها قانونيا سواء على الصعيد الوطني أو الدولي.
راكمت الجمعية رصيدا نضاليا مشرفا، جعل منها مدرسة للنضال الحقوقي بالنسبة للكثير من الحقوقيين الذين يتواجدون اليوم في تنظيمات مختلفة، وصارت تقاريرها تؤخذ بعين الاعتبار من طرف المنتظم الحقوقي الدولي، كما يُحسب لها حساب في الأوساط الرسمية المغربية. وخلال مسارها النضالي الطويل، دافعت الجمعية عن جميع المظلومين من كل الأطياف والفئات والتيارات والملل والنحل، واعتمدت في ذلك قيم ومعايير حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ولم تثنها الخلافات الإيديولوجية، ولا الحملات التي يقودها الذين استفادوا من ثمرات عملها، عن عزمها في المضي قدما نحو تحقيق الأهداف النبيلة التي من أجلها وُجدت: إرساء دولة القانون وترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان للجميع.
وقد عرفت الساحة السياسية المغربية خضّات كبيرة على مدى العقود المنصرمة، كانت خلالها الجمعية في لجّ التحولات والانعطافات الكبرى، وساهمت بنصيب وافر في نسج الوعي الحقوقي العصري وإشاعة خيوطه لدى الفئات المختلفة من المجتمع، والتأثير بالتالي على الطبقة السياسية ومسؤولي الدولة الذين أصبحوا في خطابهم على الأقل، يعتبرون ويحتفون بحقوق الإنسان باعتبارها أساسا للتنمية والبناء المستقبلي.
ولأن تطور الحياة السياسية في بلادنا لا تسير بشكل تصاعدي، فإنها لا تتطور بالضرورة نحو الأفضل، بل تعرف الكثير من المدّ والجزر الذي يرتبط بسياقات داخلية وخارجية، بل وأحيانا بأمزجة الحكام وحساباتهم الظرفية، مما يدلّ على هشاشة التجربة الديمقراطية المتعثرة التي يعرفها المغرب، حيث في غياب الترسيخ الديمقراطي والحسم النهائي في المرتكزات الكبرى، لا بدّ أن يراوح البلد بين الشيء ونقيضه لمدة غير يسيرة، وهذا ما يفسر الانقلاب الذي نشهده بعد الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب سنة 2011، والذي تلته عمليات انتقام سلطوية ما زلنا نشاهد فصولها مع محنة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي كانت من الفاعلين الرئيسيين في حراك الشارع المغربي، مع جمعيات أخرى كان لها جميعها دور في كشف الخروقات التي تتعمّدها السلطة ضاربة عرض الحائط بكل التزاماتها ومرجعياتها القانونية.
ولأن كل عملية انتقام لا بد لها من مسوغات ومساحيق فقد جاءت تهديدات الإرهاب الدولي لتصبح المبرر المكشوف لكل الخروقات التي تقترف في شبه حالة طوارئ غير معلنة. وإذا أضفنا النقمة التي تضمرها الدولة للجمعية بسبب مشكل الصحراء، الذي تبنت فيه الجمعية موقفا حقوقيا يعتمد المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، ويلحّ على التشبث بمسؤولية وضع التقارير الموضوعية حول واقع حقوق الإنسان في الصحراء، بغض النظر عن عقيدة “الإجماع الوطني” التي تريدها السلطة قناعا لاستثناء الصحراء من التقارير الحقوقية على الصعيد الداخلي، وأضفنا بجانب ذلك ملف التعذيب الذي تنكره السلطة وتؤكده الجمعية مع منظمات حقوقية أخرى، وبالحجج والأدلة والبيانات، فسنصل إلى استجماع خيوط القضية التي تجعلنا ندرك الأسباب التي تجعل الجمعية مستهدفة من قبل السلطة، بشكل منهجي ومع سبق الإصرار الترصد.
واليوم والجمعية تستعدّ لتنظيم مؤتمرها الوطني وتجديد هياكلها، يتضح بأن السلطة ماضية قدما في محاولة عرقلة استمرار العمل الطبيعي للجمعية، باعتماد أساليبها القديمة من مكالمات هاتفية وتعليمات شفوية لا تترك أي أثر مكتوب، أساليب تذكرنا بماضي الأنظمة الشمولية والبوليسية والعسكرية التي أصبح كثير منها في ذمة التاريخ، لكنها أساليب ترمي بوضوح إلى حرمان الجمعية من الحصول على حقها في استعمال قاعة عمومية مثل جميع التنظيمات الوطنية، وهو أمر يتم أمام أنظار وزارة العدل والحريات، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والأحزاب السياسية، وكل مؤسسات الدولة التي طالما تباهت بترسانتها القانونية المتقدمة.
في ظلّ هذا الوضع المتأزم يصبح على جميع مكونات الصف الديمقراطي أن تقف صفا واحدا بجانب الجمعية، لأن محنتها جزء لا يتجزأ من محنة حقوق الإنسان في بلادنا، وكل خسارة للجمعية هي خسارة لنا جميعا. كما أن من واجب حكماء البلد أن يسعوا إلى إيجاد مخرج لنا جميعا من هذه الضائقة، ليس فقط من أجل تمكين الجمعية من العمل في ظروف طبيعية، بل وأيضا من أجل إنقاذ سمعة بلدنا التي لا يبدو أنها ستكون على حال أفضل في المدى القريب.