زنقة 20 | الرباط | جمال بورفيسي
يؤكد عبد القادر الشاوي، مفكر يساري، روائي ودبلوماسي سابق، في الحوار التالي على صعوبة التكهن بإمكانية “بعث” اليسار واحتمال عودته إلى الساحة السياسية والاجتماعية لكي يستأنف لعب أدواره السابقة في التعبئة والنضال السياسي والمجتمعي والترافع عن حقوق المواطنين والحريات والدفاع عن قيم اليسار عموما.
ويرى الشاوي أن اليسار يعاني الانقسام والتشرذم، وهو تيار أصبح هامشيا في تعبيره السياسي ولا تأثير له في النضال المجتمعي إلا بشكل محدود…
1- ما هو تقييمك لواقع اليسار الراهن، وما هي قراءتك لنتائج الانتخابات خاصة في ما يتعلق بأحزاب اليسار؟
إنه تيار منقسم على نفسه وهامشي في تعبيره السياسي ولا تأثير له في النضال المجتمعي… إلا على نحو محدود جدا لم يتمكن معه، فيما يبدو، من صياغة شعاراته ولا توجيه خططه ولا إنجاح نضالاته.
أضيف إلى هذا أن عمله من أجل توليد حزب سياسي مؤثر لم تخلص إلى أي نتيجة، سواء من قبل المشاركين في (اللعبة) السياسية أو من طرف الرافضين لها.. وكانوا قد عبروا عن نيتهم في ذلك مع نهاية هذه السنة.
ولا يعني هذا أن الأزمة السياسية والإيديولوجية لهذا التيار مستمرة في الزمن فقط، بل إن الوجود نفسه لطبيعته الهامشية وللظروف شبه الاستثنائية المفروضة عليه جزئيا قد يحوله، إن لم يكن قد فعل، إلى شبح سياسي لا يفيد إلا في استذكار النضال والتحسر على الوضعية القائمة والمزيد من التمركز على الذات بطريقة نرجسية مذِلّة.
هذا مع الاعتبار أيضا أن التغيير الذي أصاب العملية الانتخابية (القاسم الانتخابي) قد منحه فرصة مثلى للتعبير عن شعاراته وأهدافه، بل ومكنه أيضا من بعض المقاعد هنا أو هناك.
غير أنه لا يجب أن نغتر بهذا الفعل (وكان المقصود به إعطاء دينامية جديدة للعملية الانتخابية في أفق توليد نخب جديدة) لأنه كان في جانب من جوانبه لفائدة القوى السياسية المهمشة قصد إشراكها في الحقل السياسي المتوافق عليه.
2- هل تعتقد أن وجود مجموعة من الأحزاب اليسارية في المعارضة يمكن أن يشكل منطلقا لإعادة إحياء اليسار وتعزيز مكانته في المشهد السياسي؟
لا أتوقع ذلك طالما أن المعارضة التي يدعيها اليسار الذي تشير إليه هي معارضة سياسية مجتمعية عنوانها المبدئي الارتباط بالطبقات ذات المصلحة العامة في التغيير.
فإذا لم يكن لليسار بها أي ارتباط حقيقي وفعال، فلعله من الأكيد ألا يكون لدوره السياسي في البرلمان إن وجد، بناء عليه، أي أثر فعلي، لأنه لا يستطيع أن يمثل نفسه فقط.
هذا مع العلم أن الحكومة التي نصبت بعد الانتخابات، على خلاف الإسلامويين وشركائهم الذين تعاقبوا على الحكم من قبل، يمكن أن تهيئ مناخا أفضل للنضال الديموقراطي اليساري بحكم الطابع (الليبرالي) الذي تدعيه بدون أخلاق أو براءة كما كان الحال مع المنهزمين الذين قادوا التجربة الماضية بكثير من الشقشقة الدينية.
ربما كان اليسار في حاجة إلى مراجعة جذرية لمواقفه وسلوكاته السياسية والذاتية، ومن أولى تلك المراجعات القيام بنقد ذاتي صريح لتصحيح المسار الذي سارت عليه فصائله المتقوقعة على الذات الحزبية الحلقية فترة طويلة من الزمن، وأساسا منذ أن توحدت أطره في مؤتمر مشهود في بداية التسعينيات.
ويجب أن يذهب النقد الذاتي إلى مراجعة التحليل الإيديولوجي الذي يبرره بطبيعة الأوضاع القائمة على جميع المستويات: النظام السياسي وطبيعة المجتمع وقواه العامة، وبلورة المهام المترتبة عن ذلك من منظور يرمي إلى الفعل بصيغة برغماتية تواكب التحولات التي حدثت على صعيد الفكر كما على صعيد الممارسة في المغرب وفي كثير من التجارب الإنسانية خارجه.
ومعضلة الحركة اليسارية المتعددة هو في زعاماتها وتركيب بُناها التي تكرس مواقع تلك الزعامات ولا تسهل أي صيغة من صيغ المراجعات المطلوبة للتأقلم مع الأوضاع الجديدة والفعل فيها من موقع القوى الشعبية التي يمكن أن تلتف حوله إذا ما أفلح (هذا اليسار) في إقناعها بأهمية وجدوى التغيير المطلوب لواقع الحال ولواقع حالها معه.
3- هل ما زلت تؤمن شخصيا بإمكانية “بعث” اليسار وتوحيد صفه؟
من الصعب أن يتكهن المرء بذلك، ولكن إذا كان المقصود ببعث اليسار على حال ما هو عليه من انقسام وتشرذم وتعقد ومنافسات، فأمر لايستحق أي مجهود ولا يستحق معه أن يكون له وجود أو أن يعود بنفس الصيغة المأزومة، لأن تجربة عقود من الزمن لم تظهر في عمومها وخصوصها إلا الفشل في بلوغ (البعث) المذكور.
في حين لم تستطع قوى يسارية تعتبر حالها جذرية من بلورة أي شكل من أشكال التطور بالقدر الذي يمكّن من تحويل نواته إلى إطار يحقق ما يدعيه في المجال السياسي ورديفه الإيديولوجي، أي بناء الحزب الثوري وتكوين الجبهة الشعبية الواسعة لمقاومة الاستغلال والقهر في أفق البناء الاشتراكي.
منظومة إيديولوجية تقليدية ليس هناك من قد يفهم دواعيها في بلد لم تنجح فيه الماركسية اللينينية إلا في بناء الكيانات الهامشية الحالمة بالتغيير، وبقي الواقع أمام القمع الذي دمر تلك الكيانات عاجزا عن تعبيد الصيغ المناسبة التي قد تفلح في بلورة فهم أفضل أو أعمق لطبيعة الأزمة المجتمعية السائدة منذ عقود من الزمن.
وسيكون من الأفضل أن يكون الاسم المناسب للحركة التي سوف تدرك طبيعة تلك الأزمة مع ما قد تكفله لها من أبنية وتحليل وشعارات وخطط مناسبة، نابعا من التوافق الذي يجب أن يخامر جميع العاملين، بغض النظر عن مواقعهم المجتمعية، في سبيل التغيير الشامل المطلوب على جميع المستويات.
وليس من المفروض مرحليا أن يكون التغيير الشامل ذا طبيعة اشتراكية ولا أن يكون بقوى ماركسية مهزومة، مع التأكيد على أن من يتولى في وقتنا الراهن التعبير عن الاشتراكية والماركسية وسواهما قيادات فاشلة أعماها التمركز السياسي والإيديولوجي النرجسي على الذات، بحكم الفشل الذي منيت وما تزال تمنى به، طوال نصف قرن من الزمن السياسي المهدور رغم شراسة قمعه وحصاره ويأسه والتضحيات التي بُذلت فيه بكل إخلاص وعنفوان.