لماذا لا تنشغل القيادة الجزائرية بحالتها “القسوى”
بقلم : طالع السعود الأطلسي
الخطاب الملكي ليوم 8 أكتوبر أمام البرلمان سيحتفظ لمدى بعيد على راهنيته وعلى مفعوله في توجيه المسار التنموي الجديد للمغرب.
جلالة الملك في خطابه المفعم بالحس التاريخي… مفتتحا الولاية الجديدة للبرلمان، بدا مطمئنا ومطمئنا على قدرات المغرب بممكناته على “مواصلة مسيرة التنمية، ومواجهة التحديات الخارجية” بقوة وفعالية “تضافر الجهود، حول الأولويات الاستراتيجية”. في “ظرفية مشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات”. وهذه، في تقديري، هي المنطلق المفتاح في الخطاب الملكي.
الخطاب الملكي يمكن اعتباره تشوير بالعلامات المنيرة للمرحلة النوعية من مساره التنموي الذي يتأهب المغرب لاقتحامها. كل المغرب… بكل فئات شعبه… بكل مكوناته… بكل مؤسسات دولته… بكل الأغلبية والمعارضة في مؤسساته المنتخبة… بكل طاقاته الفاعلة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
الناظم للخطاب الملكي هو التحفيز على الانتصار لمهام تقدم المغرب، و تحفيز المديرين لمحركات التدبيرالسياسي للشأن العام… الحكومة والبرلمان… الأغلبية والمعارضة… والأحزاب السياسية التي لا يفاضل جلالته بينها… والتي ينبغي أن تتفاعل بينها، كل منها في الموقع الذي هي فيه… وينبغي أن تملأه بكل مسؤولية… كل مؤسسات الدولة والمجتمع معا، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، العامة والخاصة… مدعوة للرفع من منسوب “التنافع” مقابل تخفيض درجات التدافع بينها… وبالجملة المقطع الجديد من مسار المغرب يوجب وعيا وطنيا من أجل فعل وطني، حماسي وصاحي لاقتحام مفازات المستقبل… لأن هذا الذي لا خيار للمغرب على اجتراحه، ليس منتزها ولا طريقا سيارا… إنها مفازات من التحديات، من المنعرجات، من النتوءات… بعضها غائر ويعود إلى عوائق ناجمة عن تأخر تاريخي، في الوعي وفي المفاصل الاجتماعية، وتستوجب تدليلها عبر حقنها بوعي روافع التقدم والتحديث… وبعضها الآخر يعود إلى خصاص في المقدرات والموارد للحركية التنموية، وتستدعي الاجتهاد والابتكار في اختراق مواقع جديدة ومحاولة أساليب نوعية لخلق وتنويع الثروة الوطنية… كما أن جزءا منها ناجم عن انحرافات في التدافع الاجتماعي وفي “النزال” الديمقراطي، كادت أن تضبب الرؤية وتثقل الحركية في المسار التنموي المغربي… دون أن نغفل ما يحيط بمسار مستقبل المغرب –خارجه- من عداوات متربصة به، حوالينا في هذه الرقعة الجغرافية… هو فيها يخترق التقدم… بينما غيره يرسف في معضلات وجودية وعاهات تدبيرية تهدده بتضييع مسالك مستقبله. هذا الذي يحاوله المغرب ويقدم، على الأرض، دلائل تحقيقه… من تقدم ومن اقتدار في منجزاته بآليات الحركية الذاتية الإرادية، تزعج الذين يرون المغرب ينفلت من إسار “محلبتهم”… ويزعج أكثر الجار الشارد وهو يلاحق، لاهتا حركية مغربية متسارعة، منتظمة، هادفة، لافتة، منتجة ومرجعية.
اليوم يدخل المغرب مرحلة “السرعة القصوى” في هذا المشروع التنموي التاريخي الذي يقوده جلالة محمد السادس… مشروع، موجهاته أرادها جلالة الملك نفسه أن تكون نابعة من تدخل شعبي ووطني واسع وعارم،لاستمطار كل الرأي النافع للوطن أرضا وشعبا. تلك الموجهات هي المسطرة في “النموذج الجديد للتنمية”. اللجنة التي أشرفت على انتاج ذلك النموذج، اجتهدت، بكفاءات مكوناتها، في أن تستدرج للتفاعل في مخبرها آراء كل من له رأي أو حتى انطباع أو أمنيات في هذا الوطن… أحزاب سياسية، مؤسسات حكامة دستورية، مؤسسات عمومية، جمعيات وطنية، قطاعية أو محلية، نقابات، مواطنات ومواطنين في المدن وفي القرى في الأحياء وفي الدواوير… قادت اللجنة نقاشا وطنيا، عموميا، عاما ومعمما… في أرجاء، جهات، جبال، سهول، سواحل وأعماق المغرب. طول وعرض جغرافية المغربية، الطبيعية والإنسانية.
محصلة الانضاج “الكيميائي” لذلك التدفق العارم، والكمي والنوعي، للرأي الوطني المغربي… المحصلة هي ما يسمى “النموذج الجديد للتنمية”… وهي ملكية جماعية لكل المغاربة وتحت رسم تحفيظ بعنوان مغرب المستقبل.
في المغرب، الدولة تصغي لشعبها وتتشرب سيادتها من سيادته ولفائدته والشعب يتملك دولته ويغذي جدواها بوقود تفاعلاته معها.
إنها خاصة المغرب، قوته، مناعته، متانة أبنيته، صحة أنسجته ومحرك اضطراد تقدمه… لأن الأصل الوطني واحد، أصيل ومحفوظ… حتى في سنوات اضطراباته.وصراعات ما بعد استقلال المغرب. تلك الناتجة عن تنوع وحتى تضاد الرؤى في حاجات وضرورات تقويم التاريخالوطني ونفض الغبار الاستعماري عنه، وتجسير مساره إلى التقدم. حتى سنواتئدن، القطائع بين مكونات الصراع لم تحرق كل الجسور بينها… مما مكن المغرب من تضميد جراحاته ونسج أسباب نهضته بالمحركين المتفاعلين، الوطني والديمقراطي… وفارت حيوية التفاعل الوطني بين الدولة والشعب عبر تلاحم إرادات كل القوى الفاعلة في الدولة والمجتمع… وقد كان لتبصر الملك الحسن الثاني دور قيادي واستشرافي لما تحقق… وقد تفاعلت معه مكونات الفعل السياسي الشعبية بالحكمة الوطنية الملائمة والمجبولة عليها.
بالأمس، غير البعيد، سنة 2011، مناسبة الاستفتاء على الدستور، تابعنا الانخراط الوطني الشامل والعميق في صوغ التوجه المغربي الجديد وما يلائمه من هندسة جديدة لهياكل الدولة ومحفزات جديد ونوعية لحركية المجتمع. واليوم مثلث لحظة” انتاج توجهات “النموذج التنموي الجديد” مساحة سياسية وجغرافية، عريضة وعميقة لاستفتاء رأي، وطني وشعبي، واع وهادف.
الحضور النوعي والكمي للرأي الشعبي في بلورة اختيارات الدولة، ومع ما يصاحب ذلك من ممارسة تقويمية للسياسات النافذة… اختيار منهجي لجلالة الملك محمد السادس، ثابت، مبدئي ومنتج… بنفس قدر حرصه على ترسيخ الممارسة الديمقراطية، اختيارا استراتيجيا لتدبير الشأن العام الوطني… تلك الممارسة التي بتنميتها للمشاركة الشعبية تمتن الوحدة الوطنية…بهذين الرافعتين يتصدى المغرب لتحديات التنمية، وبهما هو أقوى من كل الأطماع والعداوات الخارجية والتي إن هي إلا “مشاكسات“ واهن وواهم.
“مشاكسات” القيادة الجزائرية اتجاه المغرب… هي أول وآخر المتضررين بها… وليس المغرب المنصرف لتجميع وتفعيل حظوظ النجاح في مساره التنموي… كلما أمعنت القيادة الجزائرية في “انشغالها” بالمغرب إلا وتوغلت في التيه بعيدا عن الشأن الجزائري، والمفترض أن تكون مأموريتها الأولى… فتزيد أزماتها تأزما.
القيادة الجزائرية تشكو من “فقر ثقة شعبية” في أوصالها… بحيث تفتقر للمناعة الضرورية لدولة ترفع عقيرتها في براري المنطقة، والثقة الشعبية هي المناعة الأساس. تلك القيادة معزولة عن شعبها بالحراك الشعبي المستمر والمتسع… منبوذة في منطقة القبائل… الاستحقاقات الانتخابية والاستفتائية للسنوات الأخيرة، أصابت مؤسساتها المنتخبة بهزال جراء سوء التغذية الشعبية ونفور المشاركة الشعبية عنها. وحتى استحقاقات الانتخابات المحلية، المقررة لأواخر نوفمبر المقبل، من مقدماتها يبدو أنها ستفاقم هجرة الشعب عن “قيادته”. عدة مدن جزائرية لم تتمكن كل الأحزاب السياسية من تقديم توائم مرشحيها فيها… حتى أن في الصحافة الجزائرية من يقترح العودة إلى إجراء انتخابات محلية خاصة بتلك المدن… وحتى في باقي المدن ضاق أجل الترشح على عدة أحزاب أو جرى الطعن في قوائمها… لخبطة حقيقية في تدبير الانتخابات من الإدارة المشرفة عليها وتعقيدات في القانون الانتخابي وعدم اكتراث شعبي واسع اخترق الأحزاب وأضعفها… وهي اليوم تولول وتهدد بمقاطعة تلك الانتخابات.
ما هكذا تورد السياسة أيتها القيادة… ومن كان على هذه الدرجة من ضعف الثقة الشعبية فيه لا يجدر به أن يناطح هذا المغرب… الذي ليس له ثروات نفطية… ولكن له رصيد، يتنامى ويتوالد، من الثقة ومن التفاعل بين الدولة والشعب… التفاعل الذي أنتج هذا المسار التنموي الخصب والواعد… المسار الذي يؤسس لعوامل السلم… من تقدم ومن طمأنينة في المغرب وحواليه… ولقد صدق من قال “إن الانتصار الأهم من الانتصار في الحرب… هو النجاح في منعها”… ولأن المغرب قوي وبكل مستلزمات القوة، المادية والمعنوية، فقد دعا غير ما مرة إلى الحوار والتعاون مع قيادة الجزائر على قاعدة الأخوة والتطلع للتآزر في رفع تحديات التقدم… وسيواصل مسعاه… لأنه في صلب رؤيته التنموية الوطنية، الواعية، والمتحسسة لبعدها المغاربي ولأفقها الإفريقي.
المغرب في حالة تأهب تنموي قصوى… فعسى أن تحدو قيادة الجزائر مسلكه… لكي تنتشل بلادها من “الحالة القسوى” التي تؤزمها.