حزب النهضة والفضيلة إذ يصحح أوضاعه
بقلم :عبد الله لعماري
عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة
قبل عقد من الزمن، التأم شمل ثلة من الرجال المسكونين بهموم البلاد، من قيادات سابقة للحركة الإسلامية في مرحلتها التأسيسية سنوات السبعينيات، ومن معتقلين سياسيين إسلاميين سابقين في سجون سنوات الرصاص، ومن بعض الأطر والقيادات المؤسسة لحزب العدالة والتنمية، وبعد حوار مكثف وعميق، انصهرت من خلاله رؤى وتحليلات، واندمجت في بوتقته إرادات هؤلاء الرجال، في اتجاه التأسيس لتجربة سياسية ونضالية، تسهم ضمن مكونات الحقل السياسي الوطني الجاد، في إنضاج شروط نهضة البلاد من كبواتها وعثراتها وإخفاقاتها، على أساس الاسترشاد بالفضيلة أيا كان معينها ومعدنها، قيما إسلامية، وثوابت وطنية وأمجادا تاريخية، وحكمة إنسانية، ومثلا حضارية كونية رشيدة، في نظام تتفاعل فيه النظرية رأيا وتعبيرا، بالممارسة خلقا وسلوكا والتزاما، بما أسفر عن توافق يعانق ميلاد مشروع سياسي تجلى في إطار حزبي هو حزب النهضة والفضيلة.
والمحصلة أن هذا الإقلاع النوعي، الغني بالرصيد الروحي والكفاحي لرجالات تأسيسه، المتواضع من حيث إمكاناته المادية الداعمة، تعزز بالالتفاف حوله من الجهات الأربع للبلاد، من شرق المغرب إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، من زمر المواطنين الذين بثوا أنوية التأسيس، معتزين بالعرض القيمي الذي يمتح من المرجعية الإسلامية, ومن الخزان الوطني الزاخر بالنماذج الزاهرة، ثقافته وتمثلاته لاتخاذ الوسائل والأدوات المسعفة واقعيا من أجل تنزيل سياسي ملائم لاستشرافات ومطامح النهضة بالبلاد.
وطوال مراحل التأسيس والتمهيد، كانت الأنوية المخصبة لهذا الالتفاف حول مشروع الحزب، تتآلف بأواصر وروابط الفضيلة، وما تدفقه في شرايين الانتماء من دفء التعاون الأخوي، وحرارة التماسك الوطني، لأن الباعث المؤطر لهذا الانتماء هو باعث الرسالة الأخلاقية التي يضطلع بها المشروع السياسي للحزب، بما يجعل النوازع الشخصية المصلحية بتحقيق المآرب التي تجتذب طلاب الاحتراف السياسي، تنصرف إلى أدنى درجات الاهتمام والاعتبار.
غير أنه وفي سياق الإعداد للمؤتمر الوطني الثاني للحزب، سنة 2012، اندلع نقاش ساخن في المداولات القيادية لرسم استراتيجة حركية الحزب في أفق تمديد ٱثاره وانتشاره، وتوسيع مجراه وزخمه السياسي، وانجر التصادم بين الرؤى، إلى بسط التقييم الواقعي والموضوعي، للفرز الذي يميز بين نمط الحزب الذي تستغرقه الإيديولوجيا، وتطوقه الاهتمامات الرسالية والأخلاقية والثقافية ذات البعد المرجعي، والذي يحرص على الإبقاء على قاعدته الحزبية في شكل الأسرة الإيديولوجية الموحدة الهم والولاء، المتحسبة للاختراقات الوصولية، والمحترسة من ترامي تجار السياسة، الباحثين عن مطايا الأحزاب للتسلق واقتناص المغانم، وبين نمط حزب الأبواب المشرعة في وجه ذوي الأهواء الانتخابية، الذين لا تستهويهم أحاديث الهوية والمرجعية، ولا تجتذبهم آفاق مصلحة الوطن أو مستقبل أجيال الأمة، ولا تروعهم المخاطر المحدقة، بقدر ما تجرفهم أمواج المناسبات الانتخابية التي جبلوا على الانحناء لها، ككائنات طحلبية طافية لا جذور لها.
غير أن هذه المداولات القيادية رجحت خيار الانفتاح من أجل التوسيع والتمدد، بما يجاري الحالة الحزبية السياسية العامة، التي تحشد حين تحشد في مواسم الحشد، وهي مواسم الانتخابات.
ومع اتخاد الأمانة العامة قرار الانفتاح، انتصب التحدي قائما، تحدي خوض غمار هذا الانفتاح، وتحمل مغامرات مخاطره، والذي قد يكون منها ما هو عاصف مدمر للهدأة الروحية للحزب.
وتحت شعار ضخ دماء جديدة، وبدافع فضيلة تمرين هؤلاء الذين هم هذه الدماء الجديدة، على مهارات تحمل المسؤوليات، وتدريبهم على فنون القيادة الحزبية، تم اقتحام كل المحاذير، والقفز على معايير التشديد في المواصفات، وصرف النظر عن تعميق استجلاء حالات التجريح، أو التنقيب الدقيق في السيرة الشخصية للمرشحين لهذا الاستقطاب التمريني، ومن ثم تمت المجازفة بترفيع عديد من المُستَقطـَـبين إلى مصاف الأمانة العامة للحزب.
وقد شمل هذا الترفيع ثلاث فئات متنوعة، فئة تتحدر من هياكل الحزب، اضطلعت بمهامها بمثابرة ومواظبة وتتبع، فكان الترفيع لها تشجيعا وتزكية، وفئة قام الحزب باحتضانها، في إطار احتضانه للحقل السلفي، والمساهمة في تأهيل المعتقلين السابقين في قضايا السلفية الجهادية، ممن نضج عندهم الحس الاندماجي والتوافقي مع حساسيات المجتمع، وفئة كانت لها تجربة سابقة مع انتماء سياسي سابق، انتهى في حقهم بالإبعاد، إلا أن الحزب لم يأخذ هذا المصير من جانبه السلبي المذموم الذي يحمل المبعد تبعات إبعاده، لقاء سلوكيات شائنة، أو مواقف قدرها رفاق انتمائهم السياسي السابق، شاذة عن نسقهم الجماعي، وإنما ابتدرهم الحزب بتطويق تجربتهم بالتقييم الإيجابي، وابتدرهم بإنقاذ نفسياتهم من التذمر والتردي والتشظي، وضرب صفحا عن كل التهجمات المجرحة لأشخاصهم، والطاعنة في ظهورهم، وسار في حقهم سيرة نبيلة، بإكرام وفادتهم على الحزب، إكراما يحتسب لهم ما صرفوه من عمر سياسي في التجربة السابقة التي فصلوا منها، ومن غير أن يخضعهم للقاعدة الصارمة، “الجندية طريق القيادة”، فيسلكهم في مسالك الحزب وهياكله، اختبارا لقابلياتهم على الاندماج، وتأهيلا لوعيهم لاستقاء واشتراب أدبيات الحزب، وتحضيرا لهم من أجل الانغراس في لحمة الأسرة النهضوية.
غير أن هذا الترفيع وتلك الترقية إلى صف الأمانة العامة، كانت موفقة وناجحة إلى حد ما بالنسبة للفئتين الأوليتين، فئة أبناء الحزب، وفئة السلفيين من معتقلي الرأي السابقين، لكن الأمر كان على النقيض من ذلك بالنسبة لبعض العناصر المندرجة في الفئة الثالثة، والتي كانت عرضة للإقصاء والإبعاد والتصفية، من حزب انتمائهم السابق، إلا أن حزب النهضة والفضيلة التقطها حتى لا تكون عرضة للسقوط والتردي والهلاك السياسي، فضيلة منه وانسجاما مع منهجه في إعادة إنتاج الطاقات، حتى لا تتهاوى بالتهميش، وإعادة الاعتبار للمواطنين النشيطين الذين طالت كفاءاتهم أحكام الحيف والإجحاف والتبخيس نتيجة تقدير غير موضوعي، أو نتيجة حسابات شخصية من المتنفذين الحزبيين.
كانت النتيجة، أن هذه العناصر، كانت وبالا على هذا المنهج الانفتاحي، الذي تعامل بفضيلة الإنقاذ، وتساهل في قاعدة الاختبار، وتراخى في مقاييس الاستحقاق، واستخف بالنظرية التنظيمية الصارمة التى تحتاط من ترقيع الأجسام الحزبية بما لفظته الأجسام الحزبية الأخرى.
إذ أوقعت هذه العناصر حزب النهضة والفضيلة في تعثرات تنظيمية فادحة، عطلت المسيرة الطبيعية للحزب، وكانت سببا مباشرا في تعطيل الاستعدادات الضرورية لخوض استحقاقات الرابع من شتنبر الماضي.
ومنذ البداية، لم تلتقط هاته العناصر خيط المغزى من وراء منح الحزب لها فرصا ذهبية، لما أقعدها مقاعد، ليست في وارد استحقاقها، ولن تكون لها إذا ما احتكم بشأنها الى المنهج الديمقراطي في الاختيار، أقعدها مقاعد إلى جانب من يمتلك بعضهم تجارب في العمل السياسي والحركي والدعوي، تناهز لدى بعضهم، ستين سنة، ولدى البعض، أربعين سنة، فثلاثين، فعشرين، تتخللها سنوات من السجن والاعتقال لقاء الموقف والتضحية والنضال، إذ كان المغزى هو أن تتشرب هاته العناصر وتنهل من الثروة التاريخية لهؤلاء القيادمة والرموز والقيادات، فتنضج تمرنا وتدربا، كي تحمل المشعل وهي قوية راسخة، في القادم من المراحل، وتحمله وهي مفعمة النفس أدبا وأخلاقا وسجايا حميدة، لا أن تكون مسفة بالتنطع والتمرد والتهافت.
على أن هذه العناصر، ولما استمرأت وجودها في الأمانة العامة، وهنئت بالأجواء التي تعلو على مستواها وقيمتها، راحت تسول لها أنفسها استسهال كل مكسب يتطلب الجهد والبذل والرفعة والرسوخ والعطاء، فغوت بهم أنفسهم إلى الاستخفاف بقيمة الأمانة العامة، وإلى الاستخفاف بالقيادات الروحية والرمزية والمؤسسة، المشكلة لهذه الأمانة العامة.
وهكذا تنكبت هذه العناصر المستلحقة كل السبل الطبيعية والسليمة، التي تمكن من المزايا الحزبية، خلقا وثقافة ونضالا واندماجا وتعاونا، وحرصت على استغلال كل تجمع حزبي وطني أو إقليمي، للاندساس إلى امتداداته التنظيمية، بجمع الولاءات واستدراج الأعضاء المستحوذ على عواطفهم تحت ستار التعارف، إلى الإيقاع بهم في شراك جيوب النجوى المقيتة، وفي حبال التآمر على الأشخاص والهياكل والمؤسسات، وأصبحت حركية هذه العناصر تدور في فلك اصطناع تكتل من وراء ظهر القيادات والمؤسسات، مستغلين الصفة التي منحت لهم، ولا يستحقونها، وليس لهم يوم واحد من الانتماء أو العطاء للوصول إليها، وأصبحوا في سباق مع الزمن لقطع اليد التي انتشلتهم من الضياع، بعد البتر السياسي لهم، وفي تسارع وتسابق من أجل تقويض دعائم الحزب وأسسه الركينة.
ومنذ سنة 2012، سنة المؤتمر الوطني الثاني، الذي ابتلي فيه الحزب باجتهاده غير الصائب، في إنزال بعض الوافدين بما هو أكثر من منازلهم، وإعطائهم ما هو أكثر من أحجامهم، والهدأة الروحية والنفسية والأسرية التي رغد بها الحزب ورفل في نعيمها منذ تأسيسه، ما فتئت تهتز وتضطرب وتتلاشى، يوما بعد يوم، جراء المشاكسات والمشاغبات التي تثيرها العناصر المستلحقة، في وجه القرارات التي تصدرها القيادة، وتستكمل بها بناء مؤسسات الحزب.
والسجال السياسي والفكري الذي درب عليه الحزب واعتاد عليه، ملطفا ومهذبا وراقيا رقي السمت الأخلاقي الإسلامي، أصابته لوثات الحدة والخدش والطعن والدس والافتراء، لأن العناصر المستلحقة أدخلت من خلال مشاغباتها مسلكيات غريبة عن الأدب السياسي، راحت من خلالها تحرض على تشويه بعض وجوه الحزب وتسفيههم علنا من على مواقع الإعلام والتواصل. وقد بلغ الأمر مبلغا من القدح السافر البليغ حينما تورطت هاته العناصر في الإعلان إعلاميا عن اجتماع عقدوه مع عناصر من خارج الحزب، وشطبوا من خلاله على إرادة الحزب وتاريخه، واستبدلوا أمينه العام بشخص ٱخر لا علاقة له بالحزب، تناقل الإعلام اسمه في مسمى الشرقاوي السموني الذي راح هو أيضا يصدق هذا الاستبلاه ويشترط لنفسه شروطا لأخذ يد الطاعة من الحزب، وكأن الأمر يتعلق بشربة ماء من كوز.
إن هذه المسلكيات الشائنة كانت سببا في خلق اضطراب داخلي، أثر سلبا على تماسك مفاصل الحزب، وأنتج حالة من الفتور في التعاطي مع الاستحقاقات الانتخابية للرابع من شتنبر، وترتب عن ذلك انحسار تراجعي في المكسب الانتخابي للحزب، من جراء اختلال التعاون والتنسيق بين المكونات الحزبية.
وحتى لا يتحول الوضع إلى نشوء ورم سرطاني مهلك للجسد الحزبي، فقد تدارك الحزب التطورات بإعمال الكي على الجرح النازف بدل أن يلجأ إلى مبضع البتر، فكان القرار التاريخي بتصحيح الأوضاع، وحتى يكون هذا الإجراء عملا وقائيا، وفرصة للتأمل والاستدراك والعودة السليمة إلى حظيرة العمل التعاوني على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.
الدار البيضاء بتاريخ 18 فبراير 2016