العلاقات المغربية الإسبانية: في الحاجة إلى تحطيم الأوثان وتجديد العقيدة
بقلم : محمد نوري
“حين يخطو الكسل متثاقلا يلحقه الفقر”
ب. فرانكلين
يبدو وكأننا نحن المحبين لإسبانيا بحكم الجغرافيا والتاريخ والعيش المشترك محكومون، ما دامت العلاقات بين البلدين محكومة بعقيدة مبنية على التوجس، أن نُشبه حالة من وَصفه الشاعر السوداني إدريس جَمَّاع في إحدى قصائده اللذيذة:
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
لعل الأزمة الأخيرة التي يعيشها المغرب مع بلدين في الاتحاد الأوروبي (وخاصة إسبانيا) تجد تفسيرها في التحول الجيوسياسي الناجم عن سلسلة من المبادرات والمتغيرات التي حصلت في السنوات الأخيرة في العدوة الجنوبية لمضيق جبل طارق، من أهمها:
-سياسة الموانئ المتوسطية التي باشرها المغرب بنجاح لاستعادة بعده المتوسطي.
-رجوعه الموفق للاتحاد الإفريقي الذي خلخل الوضعية النشاز التي عاشها منذ انسحابه منه وجعل العديد من المؤامرات تحاك ضده من داخل هذا التجمع القاري بإشراف جزائري وتنسيق بلدان لها المصلحة في استدامة مشكل الصحراء.
–تغلغله الاقتصادي في عدد مهم من دول إفريقيا الذي أثار حفيظة العديد من الدول الأوروبية.
-ترسيم حدوده البحرية الذي أزعج إسبانيا بشكل كبير علما بأنها سبقت المغرب لذلك.
-ثروات جبل الطروبيك.
-إقفال معبري سبتة ومليلية وهذه مسألة سيادة خاصة وأن المعبرين ظلا يدمران الاقتصاد المغربي لعقود طوال فضلا عن تقديمهما لصور مهينة للمغاربة.
-الإدارة الجيدة لجائحة كوفيد19 مقارنة مع دول تفوقهإمكانيات مادية وبشرية.
-وثالثة الأثافي، الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء مما يعني حلحلة أكبر ورقة ضغط كانت تستعمل ضده، وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء، سقطت سياسيا ورقة استعملت لعقود طوال للضغط المنهجي على المغرب حتى لا يجد الوقت للتفكير الاستراتيجي.
هذا يعني أن الأزمة الراهنة مع الجار الشمالي تدل علىأن الخوف من المجهول أقوى من التوثب، أن التعامل مع المتغيرات بثوابت الماضي أمر استنفذ وقته، أن “اللوجيسييل” لم يعد قادرا على معالجة المعطيات الجديدة، وبأنه آن الأوان للخروج من منطقة الراحة المملة وتبني رؤية مستقبلية تُجدد المصالح في ظل المتغيرات الجيوستراتيجية والجيوسياسية، و”قد نجد السعادة أحيانا في المجهول” كما يقول فيكتور هوغو.
كمهتمين بالشأن المغربي الإسباني، نعرف بأن الموقف الإسباني بأبعاده السياسية والمجتمعية والعسكريةحيال الجار المغربي وقضاياه (ومنها مسألة الصحراء) يتوزع بين أربع مقاربات:
–الأولى تنهل من وصايا إيزابيل الكاثوليكية التي ترى في ملاحقة ‘المورو‘ وإضعافه سلامة لإسبانيا “الخير كل الخير، تقول إحدى الوصايا، أن يبقى المغرب مشتتا، فقيرا، جاهلا ومريضا” وهو التيار الذي أحياه أنطونيو كانوفاسديل كاستييو رئيس الحزب المحافظ PartidoConservador ورئيس الحكومة الإسبانية بين 1895 و1897 والذي يعتبر خوصي مارييا أثنار أحد مريديه.
–موقف ثاني يدعم مساعدة المغرب على حل مشكلالصحراء لصالحه ويرى في مشروع الحكم الذاتي محفزا لدمقرطة المغرب وتعميق العلاقات لكن مع الإبقاء على ميزان القوة في صالح إسبانيا وعدول المغرب نهائيا عن سبتة ومليلية. ويجد هذا التيار جذوره الفكرية عند أنخيل كانيفيت مؤلف ‘Idearium español’ وأحد الوجوه البارزة لجيل 98 (1898) الذي قام بإعادة تقييم الجذور الثقافية لإسبانيا ومحاولة إحياءها بعد النكسة التي لحقتها من جراء فقدانها لآخر مستعمراتها (وهو ما يذكرنا بما قامت به حركة النهضة بالعالم العربي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية). من الشخصيات المدافعة عن هذا الطرح نجد خوصي لويس مارغايو وزير الخارجية في حكومة راخويالذي أكد في العديد من خرجاته الإعلامية الأخيرة على ضرورة اعتراف إسبانيا بمغربية الصحراء في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي عرفها هذا الملف مستشهدا بمقولة كيينسKeynes “حين تختلف الظروف علينا أن نغير موقفنا”.
–تيار ثالث لا يرى غضاضة في الاعتراف الرسمي بمغربية الصحراء وترك ملف سبتة ومليلية حتى تنضج الشروط ويكون ذلك في إطار صفقة تعود فيها صخرة جبل طارق إلى الحضن الإسباني. من المدافعين عن هذا الطرح الذي يعتمد الفكر السياسي لحركة“التجديد”Regeneracionismo نجد موراتينوسوثاباطيرو الذي أعاد الدفاع عن هذه المقاربة في الأسبوع الأخير، كما يوجد أيضا من يؤيدها من داخل المؤسسة العسكرية، معتبرين بأن جارا قويا ومرتبطا بأوروبا مسألة في صالح إسبانيا.
–وتيار رابع يؤمن بفكرة تقرير المصير ولا يرعوي من استعمال المستويات الثلاث للدفاع عن ذلك وأعني بها منطق الدولة العميقة (مصالح المخابرات والعسكرية بشكل خاص)، المنطق الدبلوماسي والاقتصادي ومنطق مؤسسات المجتمع المدني والتعاون من أجل التنمية الذي يُذكرنا بالدور المستتر للقساوسة المسيحيين. لا حاجة لنا في التذكير بأن هذا المخرج الذي كان مطروحا أيضا داخل الأمم المتحدة لم يعد يُستعمل في هذه المنظمة منذ 2003بعد تأكدها من استحالة تطبيقه.
تراوُح العلاقات المغربية الإسبانية بين المد والجزر والصخب والسكون يجد إذن تفسيره في الدوافع الداخلية الناجمة عن الخلاف بين هذه التصورات وصراع المواقع بين حامليها، لكنه أيضا نتاج الصراعات الصامتة والمُعلنة بين مصالح الدول الكبرى في المغرب التي لا ترى بعين الرضا تحول إسبانيا إلى الشريك الاقتصادي الأول للمملكة.
هذا التحول النوعي في العلاقات المغربية الإسبانية هو نتيجة التغير الذي حصل في العقيدة الإسبانية تجاه المغرب التي انتقلت من اعتباره “بلدا يهمها استقراره سياسيا ولا يهمها تطوره اقتصاديا“ إلى “إقامة فراش مصالح معه“ عبر تطوير الشراكة الاقتصادية، تحول استطاع إضفاء جو من الثقة المتبادلة شجعت المستثمرين على العمل، وهو ما يُحسب لصالح قادة البلدين، وعليهم تحصين مكاسبه وتطويرها بما يناسب الرهانات الجديدة.
من أجل ذلك، وجب الانتقال إلى سرعة ثالثة تقتضي أولا القطع مع الانفصام القابع وراء تلك الجملة السمجة التي تزعم بأنه بالإمكان “العوم دون أن تبتل الملابس” لأن الصحراء بكل بساطة وقسوة مسألة حياة أو موت بالنسبة للمغرب.
في هذه الصدد، يبقى العمل من داخل الاتحاد الأوروبيأنجع وسيلة ما دام هو الإطار الذي يُنظِّم اليوم العلاقات المغربية الإسبانية وأيضا لأنه سيمكن السياسيين الإسبان من تخفيف الضغط الداخلي وتجاوز تعقيدات الخصوصية المحلية التي تحدثنا عنها.
ليس هناك شك في أنه من حق الدولة الإسبانية أن تدافع عن مصالحها مع الجزائر لكن دون الإضرار بمنافعها مع المغرب، لا حاجة لها إطلاقا في سلك طرق تُعرض مؤسساتها للمساءلة حول وجود فصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية، فضلا عن أنها تشكل دعوة للمستاء إلى المبارزة ورد الصاع صاعين والنبش في صندوق الباندورا الذي يحبل بالأسرار التي يعلمها العارفون بخبايا ملف الصحراء.
إن كان الهدف هو إيجاد حل لأجيال ولدت في المخيمات وهناك كبرت بدون أفق وبدون مستقبل فليس هذا هو الطريق الصحيح. آن الأوان كي يكون أصدقاؤنا الإسبان، لأسباب تاريخية، طرفا في الحل وليس طرفا في المشكل.
إن الوطن الحقيقي هو الزمن الذي يرسم حدود حياتنا أما الأرض فخالدة، والعمل السياسي في بعض الأحيان “يشبه مشرط الجراح، لا يترك المجال للشك والانتظار” كما قال فرانسوا ميتيران.
لا أريد أن يتحول الحب الذي نُكنه لإسبانيا إلى إحساس نقيض مشوب بالإحباط والغضب، كما لا أريد أن يرى الإسبان في المغاربة أعداءهم كما لو عُدنا مجددا لمرحلة محاكم التفتيش السيئة الذكر أو إلى الصور النمطية حول الجنود المغاربة الذين زج بهم فرانكو أو الحاج عبد السلام كما أوهم به المغاربة للقضاء على الكفار من بني جلدته حارما منطقة الريف وجبالة من سواعدها القوية.
من أجل ذلك، وبعد العودة الإجبارية للوعي والتعقل، لا بد من خطوات مؤسِسة بالفعل لعلاقات جديدة بين المغرب وإسبانيا، منها:
– أن تتقدم إسبانيا في موقفها من الصحراء بما يتماشى مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة ويخدم مصالحها، مصالح المغرب والمصالح الحقيقية لساكنة المخيمات.
– تقوية حضورها اللغوي الذي نراه يضمحل يوما بعد آخر على الرغم من أن المغرب يضم أكبر عدد من مراكز سيرفانطيس.
-بناء قاعدة إعلامية مغربية-إسبانية متينة تساهم في تغيير الصور النمطية والاحتفاء بالمشترك ثقافيا واقتصاديا حتى نُخرج العلاقات المغربية الإسبانية من رائحة السمك، عرق الهجرة، زَنَخ الطيسطوسطيرونوعَجاج الرمال.
–إعادة النظر في دور الخريجين المغاربة من الجامعات الإسبانية بما يناسب حجم إسبانيا في المغرب لأنالاستفادة والربحية تبقى ضعيفة جدا مقارنة مع الاستثمار.
-أما بالنسبة لسبتة ومليلية، فأعتبر أن أي مطلب مهما كانت شرعيته يجب أن يقوم على تحقيق استفادة طرفي النزاع من الموارد التي توفرها المنطقة، تحقيق التنمية البشرية، الاعتراف بالمعطى الجغرافي وأيضا بالحقوق الثقافية. أقول هذا لأن الحدود أصلا توجد في العقول ولأن الحدود الحالية في سبتة ومليلية بقدر ما منحت فرص شغل مؤقتة لبعض الآلاف من المغاربة بقدر ما دمرت نسيجه الصناعي ودفعت بعشرات الآلاف من المغاربة من مختلف مناطق المغرب للنزوح إلى المدن المتاخمة للمدينتين لممارسة التهريب.
أيضا، هناك مسألة أخرى أهمس بها في أذن أصدقائنا الإسبان وبعض أبناء وطني: تتكلمون عن الفقر كسبب لرغبة عدد كبير من الناس في الهجرة من المغرب. نعم، لكن أليست هذه حلقة مفرغة تذكرنا بمن يسبق من، البيضة أم الدجاجة؟ بمعنى آخر، ماذا كان سيحدث لو تم استثمار كل الملايير التي تخصص للإنفاق العسكري في الصحراء منذ 50 سنة بما يفيد التنمية؟ ماذا لو لم يضرب التهريب عبر سبتة ومليلية الاقتصاد الوطني ويحكم على آلاف الشركات بالإفلاس وتسريح عمالها وعاملاتها؟
ثم عن أية حدود نتكلم حين نرى هذه الأخيرة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى من جراء الضغط المتزايد الذي تمارسه البنيات الجديدة للعولمة على الدولة الوطنية بمفهومها التقليدي القائم على الحدود؟
لقد بدأت المقال بمقولة مفادها بأنه “حين يخطو الكسل متثاقلا يلحقه الفقر”، ولعل ذلك خير صورة لما حصل في سبتة مؤخرا فحذار لأن إسبانيا صندوق صدى للمغربوالعكس صحيح أيضا! و“الغباء يأتي من الكسل” كما قال جاك بريل.
لذلك، على الاتحاد الأوروبي أن يخرج من حالة تكلس المفاصل على مستوى سياسته الخارجية عموما والمغرب خصوصا وإعمال التفريق بين الحالات بدل التقدير التقريبي فيما يخص ملفَي الصحراء وسبتة ومليلية.
بدل صب الزيت على النار، يجب أن يقوم أولا بدور الوساطة والتهدئة وثانيا أن ينتبه إلى أن خلق فضاء مصالح مشتركة وتكامل اقتصادي في المناطق المتاخمة لهاتين المدينتين وحدَهُ الكفيلُ بتجاوز هذا النزاع عبر تمكيننا من مقاربة هذه الحدود من الزاويتين الجغرافية والاقتصادية بدل زاوية القانون الدولي.
أما فيما يخص ملف الصحراء، يتعين عليه أن يعي بأنه في مشروع الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب وفي التعاون الأمريكي-الأوروبي لجعل المنطقة منصة اقتصادية مؤسسة لشراكة أمريكية-أوروبية-إفريقية تكمُن الحلولُلمشاكل الشغل والشباب (حتى في إسبانيا) والهجرة والأمن.
أما “الراحة من عدم فعل أي شيء” كما قال كوكطوCocteauفيعني لااستقرارا أكبر ولاأمنا أخطر و وتقديم المنطقة في طبق من ذهب لخطر جهادي زاحف نحو الشمال ما فتئ يقضم المساحات كل يوم، ولا يخفى على أحد الارتباطات بين جبهة البوليساريو وحركات إرهابية من إفريقيا والشرق الأوسط.
ومن لا يجتهد يزوره الجهل والبؤس عاجلا أم آجلا.
ختاما، أعتقد بأن المهم ليس هو أن نتفق أم لا حول المبررات التي استعملتها إسبانيا عند استقبال إبراهيم غالي أو تلك التي قدمها المغرب لتفسير ما جرى في معبر سبتة، الأهم هو أن نعرف بأن الخطأ غالبا ما يجلب الخطأ ودورنا كمثقفين هو أن نبحث عن الحقيقة وسط الخطأ.
“ألا نصحح سلوكنا بعد الخطأ هو الخطأ بعينه” يقول كونفوسيوس، وليس ما يضاهي ذكاء الإنسان قدر تعنته وقسوته.
نتمنى أن ينتصر الذكاء!
*رئيس جمعية القنطرة المغرب-إسبانيا
باحث بمعهد السلم وإدارة النزاعات. جامعة غرناطة