الدولة والدولة الموازية في المغرب
بقلم : عزيز ادامين
يقول “بيير بورديو” في كتابه “الرمز والسلطة”: “إن أكثر المجالات اجتماعية تنوعا كالبلاط الملكي أو الاحزاب السياسية … لا تعمل إلا إذا وجد أعضاء فيها يستثمرون فيها أنفسهم ويوظفونها ويساهمون بثرواتهم ويتابعون مداراتها وحركاتها، عاملين بذلك، وعن طريق صراعاتهم وتنافسهم، على الحفاظ على بنيتها”.
تعتبر محاضرة الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي ببروكسيل والتي لخص فيها الوضع السياسي بالمغرب ب”وجود حكومة ظل تحكم وحكومة رسمية لا تملك أي سلطة”، استباقية لمرحلة ما بعد الحراك الاجتماعي الذي عرفته المنطقة المغاربية والعربية، والتي صنعت مصطلح “الدولة العميقة” في بعض التجارب الدولية.
ظهرت في المغرب عدة أطروحات في مجال الفقه الدستوري منذ وضع أول دستور سنة 1962، تحاول تفسير العلاقة بين مجال السياسة ومجال الدستور، فمنها من تحدتث عن الدستور الخلافي والدستوري التقليداني، ومنها من تحدث عن دستور ضمني وآخر مكتوب، ومنها من فرق بين طابق سفلي وآخر علوي داخل بنية الدستور… إلى غير ذلك من الأطروحات التي كانت تنطلق من الفصل 19 السابق، ومن حقل أمير المؤمنين، لتفسير أو تبرير السلوك السياسي والهندسة المؤسساتية وبنية النظام السياسي.
شكل دستور 2011 قطيعة مع هذه الاطروحات لعدة حجج، منها التغيير الشكلي في هندسة الدستور، وتفكيك الفصل 19 إلى فصلين؛ الفصل41 المعني باختصاصات الملك كأمير المؤمنين في المجال الديني حصريا، والفصل 42 الذي يحدد اختصاصات الملك كرئيس الدولة.
فهل تم هدم جميع الأطروحات النظرية؟يمكن القول إن ذلك قد حصل من الناحية الشكلية، لكن عملية الهدم لم تتم من الناحية الجوهرية. فمن حيث الشكل، لم تعد هذه الأطروحات توصف النظام السياسي الحالي، لكن من حيث الجوهر، فالنظام السياسي ما زال قائما على الممارسة التحكمية والاحتكار، لكن بأدوات سلطوية جديدة أو معدلة.
إذا كان الفصل 19 سابقا يلقب بدستور داخل الدستور، فيمكن وصف المجال الاستراتيجي للملك، بأنه دولة داخل الدولة بعد دستور 2011، رغم أن هذا الدستور فصل من الناحية النظرية، بين المجال الاستراتيجي المحجوز للملك، وترك مجال السياسات العمومية والسياسة العامة من اختصاص الحكومة، كنوع من التكامل والتنسيق. إلا أن الممارسة الدستورية والسياسية اليومية والقوانين بينت أن هذا الفصل والتمييز هي حدود فاصلة بين دولة موازية حاكمة، ودولة الحكومة الإدارية التي تكتفي بالتدبير اليومي.
تتولى دولة الحكومة الإدارية التي يترأسها السيد عبد الاله بن كيران، تدبير السياسات العمومية، من خلال مؤسسات دستورية كالبرلمان والحكومة والمؤسسات التابعة لها، إلا أن أثر هذه البرنامج والأنشطة التي تقوم بها تتسم بكونها ذات بعد قصير المدى أو يومي، لذا فمن طبيعي أن نجدها تتخذ مبادرات وتتراجع عنها بسرعة، كما أنها مكلفة بالمجال التشريعي العادي غير ذي أبعاد سياسية أو اقتصادية …
أما الدولة الموزاية الحاكمة، فتتجاوز منطق المؤسسات وتشتغل بأدوات “تحت دستورية”، غير مقيدة بنص أو مؤسسات، بل من خلال أليات وأدوات لامرئية ولا مادية، وتحسم في التشريعات الاستراتيجية والسياسات العمومية متوسطة وبعيدة الأمد، غير خاضعة في ممارستها هذه للمراقبة المؤسساتية أو المدنية.
ترتكز الدولة الموزاية على شبكة من العلاقات، أفرادها موزعون في جميع مفاصل الدولة، والإدارات, وإذا كان كل قطاع وزاري في السابق يتكون من رأسين؛ رأس وزير يمثل الحكومة، وكاتب عام يمثل حكومة الظل، فاليوم صار القطاع الوزاري نفسه يتكون من رأس واحد إداري فقط يمثله الوزير وتدبير القطاع استراتيجيا يتم من خارج دائرته.
إضافة إلى ذلك تشتغل الدولة الموازية على زرع وتكريس التناقضات في جميع وحدات ومستويات الحكومة والبرلمان ومؤسسات الحكامة والأحزاب والجمعيات وحتى على مستوى اتخاذ القرار العمومي…
وتحمل هذه الدولة مشروع البقاء، لا هو بمشروع محافظ ولا بمشروع حداثي. قد تتبنى -وفق موازين وقوى مجتمعية وسياسية وسياق إقليمي ودولي-، المشروع المحافظ وتتحالف مع التيارات المحافظة، وقد يحدث العكس إذا اختلت هذه الموزاين وظهرت معطيات جديدة.
وفي الأخير يمكن وصف تدبير الدولة الموزاية للمجال الاستراتيجي، بأنه قائم على نظام الريع والامتيازات، ويرتكز على نظامي الادماج والاقصاء للنخب والفاعلين.
فالاستبداد نوعان، استبداد سياسي واستبداد أصولي وأحلاهما مر…