الأغنياء المغاربة يزاحمون الفقراء في أسواق الملابس المستعملة

زنقة 20 . متابعة

قد لا يجد البسطاء فرصة لولوج فضاءات لا يقدر عليها إلا الميسورين، كالفنادق والمقاهي الراقية. في المقابل، فإن الأغنياء لا يترددون في مزاحمة الفقراء في مساحات ظلت زمنا طويلا حكرا عليهم، من بينها أسواق بيع الملابس المستعملة.

ما كان عيبا ونقيصة اجتماعية تمس بالوضع الاعتباري للأغنياء، لم يعد كذلك، فجاذبية السعر والجودة لا تقاوَم. ولعل هذه الأسواق من الأماكن القليلة التي يمكن أن تجتمع فيها هاتان السيدتان. تظهر على الواحدة آثار نعمة طافحة، بقصة شعر قصيرة وحلي فاخرة، تمسك بيسراها هاتفا ذكيا وقد ثبتت على رأسها نظارات شمس راقية.

إلى جانبها، تحمل سيدة نحيفة رضيعا على ظهرها، مشدودا بقماط إلى صدرها، علامات الشحوب بادية على وجه كسته تجاعيد مبكرة. تبحث المرأة عن قطع ملابس تدفئ بها جسم طفلها، وغير بعيد عنها، تتفنن السيدة الغنية في اقتناص عينات مختارة من معاطف وقمصان تحمل علامات أصلية لكبار مصنعي الملابس الجاهزة في أوروبا وأمريكا.

إنه الأحد صباحا، مرحبا بك في سوق الملابس المستعملة بأحد الأحياء الشعبية الكبرى في مدينة فاس المغربية. ساحة مفتوحة مهيأة لتسويق الخضر والفواكه، إتسعت لاحتضان هذا النشاط الآخذ في الازدهار، رغم قيام السلطات المسؤولة بحملات أمنية موسمية لا تنال منه.

كتل فوضوية تكومت على فرشات بلاستيكية، مع قدر من التخصص، مساحات للقمصان، ملابس داخلية، أحذية، معاطف وبذلات شتوية، أحزمة وحقائب يدوية…. والكل، نساء ورجال، شبان وشابات، منكبون في سباق محموم لفرز الملابس الصالحة و الظفر بقطع نادرة، وسط رائحة لنوع من المطهرات ترش به أكياس هذه البضاعة التي ترفع بالمغربي شعار “كلشي يلبس” .

khorda

 

في ذات الكومة تتجاور الماركات العالمية التي تفترق في المحلات الراقية بالأسواق الكبرى. سعيدا بدا الشاب عزيز، وهو يلقي على كتفيه بصيد ثمين من قميص ” سيليو” و جاكيت ” سبرينكفيلد” و قبعة ” أديداس” ثم سروال جينز ” ليفيس”. كانت رحلة ” شوبينغ” ناجحة كلفته ورقة زرقاء وحيدة من فئة مائتي درهم .

ليست المعروضات على ذات الجودة والسعر. نفس البائع يقترح على زبائنه مجموعات بأسعار متفاوتة. يقول علي البوكرامي، والذي يزاول هذه التجارة منذ 7 سنوات ” نحن أيضا نقتني أكياس الملابس بأسعار تختلف حسب الفرز الذي يجرى على البضاعة منذ دخولها من مدينة مليلية، وعلى قدر ما ندفع للأكياس، نحدد أسعار القطع بعد عزلها”.

أجواء السوق تختلف بين الصباح وذروة الحركة التجارية و الساعات المسائية التي تسبق وقف النشاط وجمع البضاعة إلى نهاية أسبوع مقبل.

تدريجيا، تتراجع الأسعار ويحتدم تنافس الباعة على التخفيضات، خصوصا أن الخيارات من الملابس المعروضة تتقلص أمام الزبناء الذين أتوا متأخرين بعد أن فاز المستيقظون باكرا بـ”رأس السوق” بالتعبير الدارج هنا. غير أن المساء هو الوقت المفضل لذوي الدخل المحدود، الذين يقومون بعمليات مسح أخيرة لاقتناص حظهم من الفرص بمقابل بخس لا ينهك ميزانيتهم المتواضعة.

تقول امرأة خمسينية لـ”هافينغتون بوست عربي إنها اعتادت أن تقصد السوق عصرا بعد أن يخف الإقبال وتنزل الأسعار، “فأنا لست معنية بالبحث عن ماركات عالمية، بل أشياء تسترنا وتستر أولادنا، لأننا لا نستطيع طرق محلات الألبسة الجديدة”، حسب تعبيرها. وتستطيع هذه المرأة في ساعات زيارتها للسوق اختيار بعض العينات من الملابس الجاهزة بثمن لا يتجاوز أحيانا 5 دراهم للقطعة .

كثيرون من الحشود التي تعد بالآلاف من زبائن الأسواق اليومية والأسبوعية المنتشرة عبر جميع أنحاء المغرب، لا يعرفون أن الأمر يتعلق بقطاع غير قانوني.

فمبدئيا، يمنع استيراد الألبسة المستعملة، وهذا ما تؤكد تلك الحملات الأمنية الموسمية التي تتم بين حين وآخر، غير أن لهذه التجارة وتيرة انتعاش تصاعدية خلال السنوات الأخيرة.

الأمر هنا يتعلق بقطاع غير مهيكل خارج الدورة الرسمية للاقتصاد، لكن الخبراء والعارفين بكواليسه يتحدثون عن معاملات وأرباح بملايين الدولارات تدخل خزائن التجار الذين يتحكمون في الطريق السري من مصادر هذه البضاعة في أوروبا الى أسواق التقسيط المتناثرة عبر مناطق المغرب.

إلى جانب الأسواق المفتوحة التي تعرض فيها الألبسة المستعملة على قارعة الطريق، تسللت هذه التجارة إلى محلات البيع بالأحياء الشعبية المغربية، إذ تعرض علنا طيلة اليوم هذه السلع ولو بأسعار أعلى قليلا، بالنظر إلى جودة البضاعة وتصنيفها، وكلفة إيجار المحل.

رحلة طويلة قامت بها هذه الملابس قبل أن تعرض على جنبات المحلات، ليستعملها آخرون غير الذين اشتروها في الأصل.

يروي أحد الباعة لـ”هافينغتون بوست عربي” مسار هذه السلع ابتداء من مدينة مليلية، إذ تدخل عبر معبر بني أنصار ، من خلال علب مهربة بكميات صغيرة موزعة على أفراد يشتغلون بمقابل يومي، ثم تتجمع هذه الكميات في مستودعات يملكها تجار كبار بمدينة الناظور المجاورة لمليلية. تنقل الألبسة بعدها إلى مدينة تدعى”تاوريرت”، والتي تعرف في المغرب بأنها المركز الذي تنطلق منه رحلات توزيع شحنات الألبسة القادمة من إسبانيا على مختلف الأسواق المغربية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد