زنقة 20. وكالات
يتسع الوجع الاقتصادي في الأردن، وهذه المرة بفعل قانون الضريبة الجديد، الذي يستهدف تقليل الإعفاءات الضريبية، ووصفته حكومة هاني الملقي قبل استقالتها بأنه: «قانون عادل ويقلل التجنب الضريبي».
الحكومة المستقيلة كانت قالت كلمتها في لقاء رئيسها هاني الملقي في إفطار رمضاني مع جمع شبابي أردني، كان اللقاء مدبراً والأسئلة محددة، فكشف رئيس اتحاد طلاب جامعة مؤتة المستور حين بيّن بعد اللقاء أنّ الأسئلة حدّدت مسبقاً.
تكليف عمر الرزاز تشكيل حكومة جديدة يشكل تلبية لمطلب واحد من المحتجين وليس لسائر مطالبهم. الوضع في المنطقة يضغط على الأردن، ولن يتحقق انفراج بالطرق العادية. المطلوب اختراق اقتصادي لتلافي أزمة سياسية غير مسبوقة.
لم ينتبه أحد إلى أنّ كُرة الغضب تزداد، وأن البون بات فارقاً وشاسعاً بين الملك الذي يزور مستشفى البشير مؤخراً ليراقب ويعاين الخدمات الصحية، وبين حكومته التي كانت تحاور الشباب في قاعة مكيفة فارهة، حينها كانت رسالة الملك إلى حكومته، أنّ الخدمات الصحية ليست على ما يرام، وتذكيراً بأن كتاب تكليف حكومة الملقي كان يحمل ملفاً رئيساً هو تحسين الخدمات.
تتسع كتلة الغضب الشعبي، ويعتبر إضراب الأربعاء 30 أيار (مايو) وما بعده عنواناً واضحاً بأن الوضع ينذر بأخطار، وهذا أمر لا يقبل التأويل، فمشاركة النقابات ومراكز علاجية وطنية حكومية وشركات خدمات وتجار ومعظم النقابات، في أوسع إضراب يعمّ البلد، معناه أنّ الكتلة تتحرك صوب تحريك رأسها وجسدها بالعودة للشارع، والسؤال عند العامة يصبح عن جدوى البقاء بحالة الهدوء والاستسلام للقرارات الحكومية وعن جدوى وجود حكومة، تريد أن تسدد العجز في الميزانية من جيوب الناس، وتريد أن تعوض فشلها في جلب الاستثمار وخلق فرص العمل بطريقة فجة.
هي لحظات فارقة يعيشها الأردنيون، لكنها تمزج السياسة بالاقتصاد، فمن قائل إن البلد أعُيد استعماره من صندوق النقد الدولي، إلى آخر يرى أنها حال نتجت من الفساد، إلى ثالث يراها نتيجة تحكم المطبخ الليبرالي الذي باع الممتلكات العامة، فإن الاحتقان يرتفع، والرغبة في الهجرة تتسع.
في الأردن كانت الإضرابات عميقة وتاريخية، بدأت وطنية ومسيسة وضد الانتداب، وانتهت عمالية صرفة، وذات صبغة حقوقية مطلبية، والبدايات الوطنية كانت في العشرينات وتحديداً عام 1928 مع توقيع المعاهدة الأردنية- البريطانية، حيث عمّت البلاد موجة من السخط والإضرابات في المدارس احتجاجاً على المعاهدة.
ولم تهدأ البلاد بصورة عامة، وقامت موجة من السخط (في نيسان- أبريل – وأيار- وحزيران – يونيو -1928) على ما تضمن ذلك الاتفاق من شروط قاسية. فتظاهر الشعب في المدن وأعلنت الإضرابات، واشترك الطلاب في حملة الاحتجاج والاستنكار، حتى أن مدير المعارف آنذاك أصدر بلاغاً هدّد فيه بأن «كل تلميذ يشترك في الأعمال السياسية أو في التظاهرات أو يضرب يكون عقابه الطرد». وتحتفظ وثائق مدرسة السلط بسجل التحقيق مع طلاب المدرسة والعقوبات التي قُررت ضدهم.
بعد الاستقلال استمرت الحركة الوطنية، ومع نمو الحركة بدأت تتبلور الإضرابات، لكن الأعوام الأخيرة حملت أشكالاً مختلفة من الإضرابات، بدأت في العام 2008 وزادت بعد 2011 مرتبطة بموجة الربيع العربي والسياسات الحكومية المتعلقة بالأسعار والقرارات غير الشعبية.
الإضرابات السياسية لم تعرفها البلد في شكل مكثف، والقصد منها إجبار الحكومات على اتخاذ موقف معين، وهذا النوع لم يحدث في الأردن بصيغة إضراب، بل في شكل تظاهرات سياسية وجهت غالبيتها ضد كيان دولة الاحتلال، وآخرها بعد حادث السفارة الإسرائيلية في عمان الصيف الماضي ثم ما أعقب قرار ترامب بنقل السفارة للقدس.
المهم أن الإضرابات العمالية أردنياً كانت هي السائدة في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الوقت الراهن، وقد حققت نتائج لطبقة العمال ومجتمعهم وأثنت المؤسسات والحكومات عن كثير من القرارات. في المقابل كانت الدولة تحرص على أن تكون قيادة الاتحاد العام لعمال الأردن محسوبة عليها، وكذلك كان للدولة عناصر مهمة في نقابات عمال المناجم حققت شعبية وثراء بعضوية مجالس الإدارة وبعضها قفز للبرلمان جراء ذلك، لكن السواد الأغلب في النقابات كان دوماً ضد تغوّل الحكومات على الشعب، وفي ظل غياب الأحزاب حققت النقابات توازناً مهماً في ردع الحكومات، وفي المقابل استهدفتها الحكومات حتى في حقبة ما بعد الديموقراطية عقب العام 1990 بمحاولة فصل النقابات عن العمل السياسي، ولم تنجح أي حكومة في الحدّ من قوة النقابات.
اليوم، يبدو أن الحكومة في الأردن اختارت المواجهة، وهي تتذرّع بأن القانون الجديد سوف يجعلها مستقلة في قراراتها ويحقق الاعتماد على الذات. في مقابل ذلك، تحاول ضرب حركة الإضراب عن طريق تهديد الموظفين المشاركين بعقوبات وظيفية، وتخوين الجهات المنظمة، والقول بالتمويل الأجنبي، وهكذا تكون التهمة جاهزة لكل من يعارض السياسات المجحفة.
لكن تهمة العمالة أو المؤامرة لا تصحّ اليوم، وهي غير مقبولة في بلد نسبة التعليم والقراءة فيه من الأعلى في المنطقة، لكن يبدو أنّ الحكومات حين تعجز تتولى مقاضاة الناس بالظن. وفي أي حال دفعت حكومة الملقي الثمن.
هكذا يحيلنا الواقع الأردني على مشهد معقّد، دعم عربي يقلّ ويشح، وحكومة مضطربة، ومجاميع شعبية تنافح من أجل العيش بكرامة، وقد لاذت بالقروض من البنوك بعدما اصبح الراتب أو التقاعد لا يوفر إلا القليل من الحاجيات. هنا للغضب طرائق مختلفة من التعبير والمواجهة، والتي كان منها إضراب الثلاثين من أيار، والذي سيكتب في تاريخ الإضرابات الأردنية لكونه مثّل التزاماً كبيراً من الجميع بالمواجهة السلمية لسياسات الحكومة، وبذلك يعدُّ لحظة توحيدية للمجتمع من أجل العيش بكرامة واستقلال وطني حقيقي.