في السٓلفية الحزبية
بقلم : محمد إنفي
يحيل مفهوم السلفية، لغويا واصطلاحا، على الماضي. وهو، في الأصل، مفهوم إسلامي يدعو إلى التمسك بما نُقل عن السَّلف الصالح؛ أي الصحابة والتابعين (أو المسلمين الأوائل)، باعتبارهم يمثلون الإسلام الأصيل والصحيح.
وقد قامت على هذا المفهوم تيارات فكرية وحركية في العالم الإسلامي، ليس المجال، هنا، للخوض فيها وفي تفريعاتها السياسية والإيديولوجية؛ ذلك أن الهدف من هذه السطور، ليس هو الحديث عن السلفية بمعناها الديني والإيديولوجي، بل فقط بمعناها اللغوي، حتى نتمكن من إسقاطها على المجال السياسي، وبالأخص، المجال الحزبي.
والمقصود بالمعنى اللغوي لكلمة “السلفية” (المشتقة عن كلمة “السَّلَف”، أي ما مضى وانقضى)، هو ما تعنيه من إحالة وارتكاز على الماضي في التعبير عن موقف من الحاضر. فالحديث عن الماضي، من هذا المنظور وبهذا المعنى، غالبا ما يتميز بنوع من “النوستالجيا” (أو الحنين) والتمجيد والتقديس…، في مقابل واقع يبدو مُحبِطا ومترديا…؛ أي مخالفا ومناقضا لما كان عليه الأمر في السابق.
ما دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع، هو، من جهة، ما أسمعه، من حين لآخر، في لقاء ثنائي أو حتى جماعي (في الاجتماعات الحزبية، مثلا)، من تحسر على الواقع الحالي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و”بكاء” على ماضيه المجيد (ولا أعتقد أن هذا الأمر يخص الاتحاد الاشتراكي وحده)؛ ومن جهة أخرى، ما يُكتب على صفحات المواقع الاجتماعية (فايسبوك، أساسا) في إطار التفاعل مع بعض الكتابات أو الرد على بعضها، والذي يسير في نفس الاتجاه: الحنين إلى الماضي والتحسر على الحاضر، دون تحليل أو تفسير، إلا ما كان من تحامل على بعض الأشخاص وتصفية الحسابات معهم.
جميل أن نحتفي بماضي حزبنا الذي هو ماضينا وأن نفتخر بتاريخه الذي هو تاريخنا وجزء أساسي من تاريخ بلادنا. لكن الماضي، كما هو معلوم، لا يعود والتاريخ لا يُعيد نفسه؛ وإن حصل، فلن يكون إلا بشكل مغاير، وربما بشكل مشوه.
فالماضي يصلح، إذن، للدروس والعبر، لكنه لا يُعاش مرة ثانية. و يتكفل التاريخ بتسجيل أحداث هذا الماضي، بما فيه من نجاحات وإخفاقات. وتاريخ الاتحاد الاشتراكي مليء بالتضحيات الجسام، دفاعا عن الديمقراطية والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. ويشهد على ذلك تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة.
ودون الدخول في كثير من التفاصيل، يمكن أن نرى في المواقف المعبر عنها، إما شفويا أو كتابة، ما يمكن أن يدلنا على الخانة التي يمكن أن نُصنِّف فيها كل متكلم؛ إذ ليسوا سواء.
هناك العديد من الاتحاديات والاتحاديين يتحسرون على واقع حزبهم، لكونه تراجع انتخابيا وإشعاعيا؛ ولم يعد حضوره في المجتمع، فكريا وثقافيا وإعلاميا ونضاليا، كما كان من قبل. وليسوا وحدهم في هذا الهم؛ إذ يشاركهم فيه الكثير من المواطنين الذين عايشوا نضالات الاتحاد وخبروا تضحياته في المجال السياسي والاجتماعي والحقوقي وغيره.
ما يميز هذا الموقف، هو نوع من الإغراق في تمجيد الماضي والتحسر على الحاضر. وغالبا ما يكون مبعثه الغيرة على الحزب. وبمعنى آخر، فهو موقف عاطفي، لا يقوم على التحليل والتقييم للأوضاع، سواء في الماضي أو في الحاضر لمعرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة للوضع الحالي؛ بل يكتفي بالملاحظة العابرة والحكم على اللحظة.
وإذا كان أصحاب هذا الموقف تحركهم الغيرة على حزبهم، فهناك صنف آخر من الذين انتموا للاتحاد، يحركهم الحقد والضغينة. فهم يتباكون على ماضيه؛ لكنهم يتشفون ويشمتون في حاضره. وأغلب هؤلاء من الذين فقدوا مواقعهم التنظيمية التي كانت تمنحهم إمكانية الاستفادة من الريع الحزبي، المادي والمعنوي؛ فلم يتحملوا “الخسارة” وراحوا يبحثون عن كل وسائل الانتقام من الحزب الذي صنع مجدهم التنظيمي والسياسي . ولا نعدم الأمثلة في هذا الباب من هرم القيادة إلى صفوف القاعدة.
وهؤلاء لا يكتفون بالتشفي والشماتة، بل لا يدخرون جهدا في تقويض البيت على من فيه، عملا بمقولة “علي وعلى أعدائي” أو “أنا ومن بعدي الطوفان”. ويجدون، بالطبع، العون والمساعدة عند كل الحانقين على الاتحاد والمتحاملين عليه، سواء من خصومه التاريخيين أو المُحدَثين. والأصح، أن المتباكين على تاريخ الاتحاد بخلفية انتقامية، هم الذين يقدمون الدعم والعون لأعداء الاتحاد وخصومه، من أجل النيل منه.
يمكن أن نضيف إلى الصنفين السابقين صنفا ثالثا. ويتكون هذا الصنف من المناضلات والمناضلين الذين يشعرون بالعجز أمام الوضع الحالي. وبدل أن يعترفوا بعجزهم ويتركوا غيرهم، دون تشويش، يقوم بما يستطيع لاستعادة المبادرة، يركبون موجة من المزايدات والهروب إلى الإمام. ولمحاولة إضفاء المشروعية على موقفهم، يتسترون وراء الماضي وأمجاده لتبخيس مجهودات الحاضر وإنجازاته، بدل الانخراط فيها وتقويتها.
القاسم المشترك بين الأصناف الثلاثة التي قدمناها في الفقرات أعلاه، هو القفز على الواقع وعلى التاريخ، إما جهلا أو تجاهلا؛ ذلك أن الوضع الحالي للاتحاد (في الترتيب التمثيلي)، ليس وليد اليوم؛ بل هو نتيجة تراكمات وأحداث، تمتد، على الأقل، من 2001 (المؤتمر الوطني السادس) إلى 2012 (المؤتمر الوطني التاسع).
لا حاجة للتذكير بكل الأحداث (الحزبية والوطنية) التي عرفتها هذه الحقبة التاريخية، بما في ذلك الاندحار الذي عرفه الحزب سنة 2007 من المرتبة الأولى إلى المرتبة الخامسة في الانتخابات التشريعية. لكن لا بد أن أشير إلى أن أية قراءة للواقع الحالي، لا تأخذ بعين الاعتبار تلك الأحداث، سوف تكون، بالضرورة، قراءة مغلوطة وبعيدة عن الواقعية وعن الموضوعية.
لست، هنا، بصدد البحث عن تبريرات للواقع الحالي. لكن فهم هذا الواقع لا يستقيم بدون النظر في الأسباب المباشرة وغير المباشرة. أما الاختزال الذي يقوم به البعض، إما كسلا وإما عُنوة لأهداف غير نبيلة وغير منصفة، فلن يخدم إلا مصلحة أعداء الاتحاد.
ومن قصر النظر، بل ومن البلادة السياسية، أن يعتقد البعض، وهو يصفي حساباته مع هذا الشخص أو ذاك، إما انتقاما وإما حسدا، بأنه يسيء فقط إلى ذاك الشخص. فالإساءة تلحق، بالضرورة، المؤسسة الحزبية وتاريخها؛ كما تلحقه، بشكل أكبر، هو أيضا، سوء وعى ذلك أم لا (انظر مقالنا بعنوان “عن آفة ردم التاريخ الشخصي ودكِّه”، “إكسير”، صفحة محمد إنفي).
خلاصة القول، لن يسعف الموقف السلفي(والعواطف الإيجابية أو السلبية الحاملة له) لا في فهم الواقع الحالي للاتحاد ولا في تجاوزه؛ ذلك أنه موقف لا يستحضر لا التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في بنياته وفي قيمه ولا تلك التي عرفتها البنية البشرية للاتحاد الذي أصبح يتأثر أكثر مما يؤثر في المجتمع. لذلك، أعتقد أن الوقت قد حان للتحلي بالتواضع ومراجعة الذات وتصحيح ما يمكن تصحيحه. وهذا يعني كل منتسب للاتحاد أو محسوب على العائلة الاتحادية. وعلى الجميع أن يستخلص الدروس من الواقع الحالي الذي ليس إلا انعكاسا لما أرتكب من أخطاء في حق الاتحاد الاشتراكي؛ وبالتالي، في حق الوطن. ولست مُتهِما ولا مُبرِّئا لأي طرف، وإن كان الواقع والوضع السياسي العام يقدم ما يكفي من أدلة لإصدار الحكم في هذا الاتجاه أو ذاك.