المسألة الدستورية بالمغرب ..أي أفق للتعاقد السياسي؟
بقلم : عبد المطلب أعميار
بالمصادقة على دستور الفاتح من يوليوز 2011 يكون المغرب قد وقع على دستوره السادس منذ دستور 1962 مرورا بدساتير 1970،و1972 و1992،و1996، وصولا إلى الدستور الحالي.وهو الدستور الذي سينقل النقاش السياسي ببلادنا من الترافع السياسي لإقرار دستور ديمقراطي شعبي- وهو الترافع الذي ظل يؤثث خطاب المعارضة السياسية بالمغرب منذ مطلع الاستقلال من أجل الخروج من دائرة الدساتير الممنوحة إلى مجال الدستور التعاقدي- إلى خطاب جديد، ترافعي هو الآخر، تشترك فيه أغلب المكونات السياسية، خطاب يطالب بتفعيل الوثيقة الدستورية، وترجمة مضامينها التعاقدية.
وهكذا انتقل النقاش السياسي من المطالبة بالإصلاح الدستوري إلى المطالبة بتفعيل الدستور. وهوانتقال يؤشر على تحول في الخطاب السياسي، يوازيه تحول في طبيعة منظومة الحكم بدأت ملامحها منذ إقرار مسار المصالحة الحقوقية، وتدشين تجربة التناوب التوافقي.
وبغض النظر عن بعض المواقف المعلنة إزاء الدستور الجديد ، فان الاتجاه العام الذي ارتسم في الخطاب السياسي الجديد يرتبط بالمطالبة بأجرأة الوثيقة الدستورية.فأجمعت العديد من الصيغ اللغوية على هذا المطلب ( التنزيل- التفعيل-التطبيق- الأجرأة- الإعمال…) الذي يترجم إحدى السمات البارزة لمغرب ما بعد 20 فبراير بعد إقرار المنهجية الديمقراطية بموجب الفصل 47 من الدستور، والتي أفضت إلى تنصيب حكومة عبد الاله بنكيران في صيغتها الأولى، وتعيينه اليوم لتشكيل الحكومته ما بعد انتخابات 07 اكتوبر .بل حتى الرافضين للدستور، من مواقع ورهانات مختلفة ، يحتكمون لمنطوق مواده في العديد من المناسبات.
ولعل شعار “المنهجية الديمقراطية” يلخص إحدى المطالب المترتبة عن سيرورة التناوب التوافقي التي ساهمت في التحول المذكور.وهو ما يعني بالنتيجة، وبتحليل الوقائع التاريخية، أن مسار الإصلاح الديمقراطي لم يبدأ مع دستور 2011، بل هو سيرورة تاريخية تفاعلت مع ثنائية الصراع-التوافق من مدخل النضال الديمقراطي، والبناء المؤسساتي.
وقبل ذلك ينبغي التذكير بأن مطلب الإصلاح الدستوري ارتبط بالصراع السياسي الذي خاضته قوى المعارضة المغربية ضد النظام. وقد عكس هذا المطلب قصة التوتر، والعنف، والعنف المضاد الذي عاشه المغرب سنوات طوال في صراع متشنج بين شرعيتين. شرعية الحكم الملكي من جهة، وشرعية الحركة الديمقراطية، من جهة أخرى.وقد كانت دعوات مقاطعة الدساتيرالممنوحة، أو الدعوة للتصويت ضدها، تعبيرا واضحا من لدن أقطاب المعارضة يفيد رفضها الواضح للاستفراد بالحكم، ولأسلوب إدارة الدولة.
وقد كانت منظومة الحكم تنبني على سياسة التسلط ، أي على التحكم، والقمع والشطط، واستغلال النفوذ..وكانت هذه السياسة تستجيب للتوجه العام للنظام باعتباره اختيارا يترجم أسلوب الحكم القائم على استعمال العنف بكل مستوياته ، مع ما يستتبع ذلك من اعتماد استراتيجيات الترهيب،والتخويف، وتعطيل المسار الديمقراطي والتنموي…ولم يكن هذا التوجه معزولا عن السياق السياسي العام خلال تلك المرحلة.وكان الصراع حول المشروعية ، من الطرفين، صراعا قويا تطلب وقتا طويلا لتجنيب المغرب منزلقات الانهيار المؤسساتي. فكانت قضية الصحراء المغربية والإجماع الوطني، ثم أطروحة النضال الديمقراطي، فالمسلسل الديمقراطي، ثم التناوب التوافقي ، و المصالحة والإنصاف.
ومع ذلك، يستوجب القول بأن منطق القبضة الحديدية الذي انتهجه النظام المغربي لعقود طويلة لم تكن لتعطل إجراء الاستفتاءات حول الدستور(خمسة دساتير مابين 1962 و1996 أي بمعدل دستور في كل 10 سنوات) ولو شكليا، لأن نتائجها كانت محسومة سلفا، ولم يكن النظام ينتظر ، طبعا، نتائج الاقتراع حتى يتحقق من الإرادة الشعبية.بل كان الهدف في كل مرة، إعلان شوط جديد من المبارزة السياسية بين القطبين بحثا عن توافقات ممكنة، أو تعاقدات محتملة..إلى أن تم التوافق حول دستور المرحلة الانتقالية( دستور 1996)، بالصيغة المعروفة، بعد تصويت قطب المعارضة ب” نعم” المعروفة في التاريخ السياسي المغربي “ب ” الإشارة الايجابية”.
ومع دستور2011،( الدستور السادس للمملكة) سيتكرس الاختيار الدستوري كحلقة جوهرية ضمن حلقات إصلاح المنظومة السياسية بالمغرب. بما يعني، أن الوثيقة الدستورية الجديدة ستدخل الفرقاء السياسيين إلى مختبر” التأويل الديمقراطي” بما يعنيه من صراع بين مرجعيات وخيارات ورهانات مختلفة.ولعل هذا ما يفسر جوهر الصراع الذي وسم العديد من الملفات المطروحة في أجندة استكمال القوانين التنظيمية، وكذا على مستوى تفعيل مقتضيات الدستور في العديد من المجالات.
غير أن المسار الدستوري اليوم لم يعد يطرح فقط سؤال ” التنزيل” بل أضحى يطرح ، وفي الجوهر، إشكالية السياسات العمومية المتعارضة أصلا مع روح الوثيقة الدستورية. فإذا كانت الوثيقة الدستورية تشكل أرضية تعاقدية ، وتكثف أهم الاختيارات ، والتوجهات، والوظائف المرتبطة بسير المؤسسات، فهل من المقبول أن يتم إقرار سياسات عمومية تتعارض مع هذه الاختيارات والتوجهات،من قبل الحكومات المنتخبة؟.
وإذا كان دستور 2011 قد نقل المغرب من سنوات الصراع حول منظومة الحكم،إلى إعمال مطلب الحكامة ، فما معنى إذن أن يتم إقرار سياسات عمومية تضرب العديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها دستوريا( ضرب مجانية التعليم- رعاية الدولة للقطاعات الاجتماعية…….).
فأي معنى سيكتسبه التعاقد الدستوري في ظل التراجعات التي تضرب في الجوهر أسس هذا التعاقد؟.
إن الصراع اليوم حول تشكيل الحكومة الجديدة لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يفرغ الدستور المغربي من مضامينه الحقوقية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.وأن يختزل منظومتي السلطة التنفيذية والتشريعية في صراع حول التموقعات السياسية بعيدا عن الجوهر التعاقدي للدستور، وبعيدا عن مستلزمات بناء دولة العدالة الاجتماعية.