بدأت ترتسم ملامح مستقبل مكفهر للعالم، حيث كما حدث في السنوات الأخيرة قبل الحرب العالمية الثانية، تسارعت وتيرة التصعيد بين بؤر التوتر الإقليمية في كل منطقة، وكان من أكبر العلامات السابقة على قرع طبول الحرب، صعود التيارات الفاشستية والنازية وبروز دور القادة والزعماء المهيّجين، وخطباء الفتنة، ينادون من على المنابر بضرورة التعبئة لسحق الخصوم والقضاء عليهم، منادين بأصوات جهورية وحركات هستيرية، ونبرة حاسمة قطعية.
يمكن للملاحظ العابر أن يحدس بوضوح التصعيد القادم بين معسكرين يتصفان بالنزعة الفاشستية الإقصائية، وباعتماد الخطابة والتصعيد وإشاعة الكراهية ضدّ الآخر المختلف، وهما اليمين المتطرف في بلدان الشمال، والإسلام السياسي ممثل اليمين الراديكالي في بلدان الجنوب، وكون المعسكرين يلتقيان في نفس الخصائص تقريبا، فإن كل واحد منهما يعبر عن حاجة ملحة إلى عدو يعبئ ضدّه بقوة. ولعلّ نجاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمثل نقطة تحول هامة في حرب الاستقطاب القائمة بين التيارين، حيث يأتي نجاحه بمثابة ضوء أخضر للأحزاب اليمينية المتطرفة بأوروبا للتعبئة من أجل اكتساح صناديق الاقتراع في أية استحقاقات قادمة، معتمدين الشعار المركزي المميز لهذا التيار وهو تحميل الأجانب مسؤولية الأزمات المختلفة، وإغلاق الأبواب ضدّ أي نوع من أنواع الهجرة، مع التركيز على مفهوم شوفيني للوطنية الضيقة، يؤدي في النهاية إلى العزلة التامة عن العالم.
ومن العلامات الملفتة للانتباه أنّ هذا التيار قد أصبحت له حتى في الدول الأكثر استقرارا وازدهارا نسبة مرتفعة من الأتباع بسبب المخاوف التي أصبح يولدها التيار الفاشستي الآخر القادم من بلدان الجنوب، التيار الإسلامي السياسي، بنوعيه الانتخابي الإخواني أو الوهابي المسلح، وهو التيار الذي أقام بدوره إيديولوجياه التحريضية على مواجهة الغرب وكراهيته بوصفه عدوا مستعمرا ومنحلا ، وعلى الدعوة إلى الانغلاق في المرجعية الدينية بقراءاتها القديمة التي تمت في سياقات لم تعد لها أية علاقة بالسياق الراهن.
فبعد صعود تيار اليمين المتطرف في النمسا بدا واضحا زحف هذا التيار في كل من ألمانيا وهولندا وفرنسا وبلجيكا نحو مقاعد البرلمان والحكومة بخطى ثابتة، فقبل سنوات فقط لم يكن هذا التيار يتجاوز 2 في المائة في فرنسا، وهو اليوم يعلن بافتخار وصوله إلى نسبة 25 في المائة، كما أنه وصل في هولندا إلى 30 في المائة وهي أرقام مخيفة، تقابلها في الضفة الجنوبية صعود الإسلام السياسي في أية انتخابات يتم تنظيمها في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهو صعود يتم دائما في إطار جوّ من التحريض يطبعه تزايد العنف اللفظي في مواقع التواصل الاجتماعي، النزوع الذي يشجعه هذا التيار لأنه يتغذى منه ويستقطب الأتباع المهيَّجين، فحتى القياديين في الأحزاب الإسلامية لا يتورعون أحيانا عن التعبير عن مواقفهم بأساليب عنيفة كمثل الحديث عن عن قطع الرؤوس وبتر الأعضاء في الفترات الانتخابية دون وجل أو خوف، كما دعا أحد القياديين البارزين في العدالة والتنمية المغربي أتباع حزبه إلى “الإغلاظ في القول” لخصومهم السياسيين، هذا “الإغلاظ” الذي يمكن أن يذهب في كل الاتجاهات بالطبع وأن يكتسي صيغا شتى، وهو ما يعني أن العنف الرمزي يشكل آلية ضرورية للتيار الإخواني الانتخابي، مثلما يشكل العنف المادي المباشر وسيلة حيوية بالنسبة للتيار الوهابي المسلح.
إن تصاعد خطابات العنف والاستقطاب على أساس التحريض والكراهية في الضفتين الشمالية والجنوبية، مع صعود نجم التيارين اليمينيين الراديكاليين في البلدان الأوروبية وبلدان الجنوب في نفس الوقت هو مسلسل سينتهي لا محالة إلى تهديد استقرار دول الجنوب والشمال معا، مما سيضع العالم على شفا الهاوية من جديد بعد أن اعتقد الناس بأن هذا النوع من المغامرات قد تجاوزتها البشرية بعد دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لقد تنبأ أحد منظري الهيمنة الأمريكية على العالم قبل عقود بهذه المواجهة التي اعتبرها حتمية بين “الغرب والإسلام”، وقد ظلت النزعات المتطرفة من الجانبين تغذي هذه النبوءة المضادّة للحسّ الحضاري وتقدم لها كل المسوغات المطلوبة حتى كادت تتحقق، ولم يبق من أمل إلا في حكماء العالم وقواه الديمقراطية لكي تتحرك بجدية لتوجيه النقاش نحو مزيد من التفاهم والتقارب على أساس القيم الإنسانية النبيلة التي تمثل المشترك العام بين شعوب العالم، فلا غرابة أن نجد اليمين المتطرف والإسلام السياسي يحملان معول الهدم لاستهداف تلك القيم بالذات، لتبقى المواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات . إنهم يتغذون من الكراهية والتحريض والإقصاء، ولهذا علينا أن نعمل ليل نهار على إشاعة قيم الحوار والتبادل والاعتراف والبحث عن المشترك الإنساني في كل الثقافات والأديان والحضارات.