عصيد: مسودة قانون جنائي أو مشروع للرقابة والتحكم

بقلم : أحمد عصيد
يهدف وضع القانون الجنائي إلى حماية الحريات والدفع بالأفراد المواطنين إلى قبول مبدأ العيش المشترك في ظل القانون، وداخل جماعة منظمة، وفي إطار الدولة، وإلزامهم باحترام القانون والتنازل عن حرياتهم الطبيعية الأصلية لكي ينعموا بحريات مدنية مقننة، ويحظوا بحماية الدولة جميعهم على قدم المساواة.
ولهذا فإن القوانين إنما تستجيب لواقع ما، ولحاجة اجتماعية، فليس التفكير في تقنين الإجهاض مثلا إلا ضرورةً فرضها واقع تبين بأن ثقافة المنع والحظر والزجر لم تعد كافية من أجل تدبيره. وهذا ما يفسر أن الذين يسعون إلى الاستمرار في تدبير شؤون الواقع باعتماد فلسفة الحظر والمنع والحجْر هم الذين تصدوا لأي نقاش في الموضوع ، وحاولوا إجهاض الحوار الوطني باستعمال التهديد والوعيد كعادتهم، بينما الذين يؤكدون على ضرورة فتح النقاش في هذا الموضوع هم الذين يهدفون أساسا إلى إيجاد حلول لمشاكل واقعية لا يمكن التغطية عنها بالنفاق أو بالمراوغة أو مؤامرة الصمت المألوفة.
ومن تمّ فأول شرط مطلوب في القانون الجنائي الجديد هو أن يستجيب للتطورات السياسية والحقوقية التي عرفها المغرب وللمكتسبات الدستورية والواقعية التي حققتها القوى الحية على مدى عقود سابقة. و لهذا لا يُتصور أن يحمل مشروع القانون الجنائي مضامين نكوصية تعود بنا إلى ما قبل القانون الجنائي الحالي الذي من المفروض أن نتجاوز نقائصه.
من جهة أخرى فليست القوانين مجرد قواعد مواكبة للواقع ومعبرة عنه بل هي أيضا حاملة لتطلعات مستقبلية، فإذا كان الهدف هو الاتجاه نحو الديمقراطية والتحرر، وتكريس قيم العدل والمساواة والحرية، فإن القوانين تعمل على أن ترهص بذلك في مضامينها وبنودها. وهذا ما يفسر الحديث في الدستور عن الحريات كما هي متعارف عليها عالميا وعن سمو المعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية وعن المناصفة والمساواة التامة بين الرجال والنساء رغم أن الجميع يعرف بأن واقعنا المغربي ما زال لا يعكس هذه القيم ولا يجسدها بالكامل، بل قد يقوم بعرقلتها، لكنها القيم التي يسير الواقع في اتجاهها كما تسعى الدولة إلى تحقيقها تدريجيا. ولهذا تم التنصيص عليها في القانون الأسمى للبلاد.
وخلال النقاش المثار حول مسودة القانون الجنائي تكلم وزير العدل والحريات للدفاع عن مشروعه ومن بين ما قاله للصحافة إن مسودة مشروع القانون المقترح تسعى إلى “تحقيق الملائمة مع الدستور، والملائمة مع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ومكافحة الجريمة، ومواكبة التطور الحاصل على مستوى الأنظمة الجنائية الحديثة وما وقف عليه الفقه الجنائي المعاصر من نظريات حديثة لتطوير أداء العدالة الجنائية، وسد الثغرات التي أفرزتها الممارسة العملية والتي أصبحت تتطلب ردا تشريعيا لإصلاحها أو تلافي عيوبها”.
والحقيقة أن مسودة المشروع تتضمن بعض الإيجابيات التي أكد عليها جميع الحقوقيين، مثل العقوبات البديلة وتجريم التحرش الجنسي، وتجريم الاختفاء القسري والتعذيب، غير أنه يبدو من كلام الوزير وبعد اطلاعنا على مسودة المشروع أنه تعمد إبراز العناصر الإيجابية الغائبة في الوثيقة التي يقترحها، مع وضعها في الواجهة للتغطية على طبيعة المشروع المقترح، والذي يتميز في روحه العامة وتوجهه بتجاهل المرجعية الدولية لحقوق الإنسان والالتفاف على مكتسبات دستور 2011، وعدم الأخذ بعين الاعتبار للعديد من التطورات التي عرفها القانون الدولي والأنظمة الجنائية، وهذا ما يفسر تعبيره بوضوح عن روح الوثيقة التي صاغتها وزارته بالقول معقبا على من ينتقد استهداف الحريات العامة والفردية في المسودة، أنه لن يتراجع عن ما من شأنه “أن يمسّ النظام العام المؤسس على الأخلاق العامة، أو ما يضرب إسلامية الدولة التي يرأسها أمير المؤمنين”. وهو بذلك يستمر في استعمال الدين والسلطة الدينية للملك من أجل تمرير مشروع قانون لا يتماشى مع حاجات المرحلة.
ورغم الطابع المحافظ للعديد من مواد مسودة القانون المقترح والذي جلب على الوزير الكثير من الانتقادات، إلا أنه اعتبر :”أن ما يثار من نقاش حول المسودة حاليا مرتبط بما هو إديولوجي”. وكأن الوزير وهو يضع هذا المشروع لا إيديولوجيا له، في الوقت الذي نعتبر فيه المشكلة الرئيسية لهذا المسودة المقترحة هو تضخم الإيدولوجيا المحافظة وعدم احترام تطورات المجتمع والدولة المغربيين، وضرب التزامات المغرب الدولية عرض الحائط.
تعكس المسودة نزوعا كبيرا نحو التضييق على الحريات، وقد سبق لي أن أشرت قبل ثلاث سنوات إلى أن التسمية التي أطلقها حزب العدالة والتنمية على وزارة الرميد “وزارة العدل والحريات” إنما هي للتمويه، لأن هناك اتجاه واضح نحو خنق الحريات في الواقع وتبنيها فقط في التسميات، وهو نفس ما فعله حزب “الإخوان” في مصر عندما أطلق على نفسه حزب “الحرية والعدالة”، عكس ما تبين أنه يسعى إليه بعد ذلك. وهو امر ينطبق على “حزب النور” السلفي أيضا، حيث تبين من خلال مواقفه أنه يسعى إلى تحقيق النقيض مما توحي به تسميته.
ويرمي هذا السعي إلى التضيق على الحريات في القانون الجنائي إلى خدمة طرفين اثنين، يمكن اعتبارهما المستفيدين الرئيسيين: السلطة التي تتربص بالحريات العامة، والمحافظون الذين يستهدفون الحريات الفردية. ولهذا جاءت المسودة معبرة عن تراجعات خطيرة في هذين المجالين.
ويعود هذا النكوص إلى المرجعية الفكرية والحقوقية التي اعتمدتها مسودة المشروعن والتي يبدو أنها تستند بنسبة كبيرة إلى منطق فقه “سدّ الذرائع” القديم، الذي كان مسؤولا بنسبة كبيرة عن تخلف المجتمعات الإسلامية، وإلى “نظام الحسبة” الذي اعتمد أسلوب الرقابة الدينية المشدّدة على الأخلاق العامة وسلوكات الأفراد، وهذا ما يفسر ما لاحظه الحقوقيون ورجال ونساء القانون من كون الصياغة التي اعتمدها محررو هذا المشروع في العديد من الفقرات هي صياغة تتسم بالعمومية والغموض المقصود، والذي يجعلها فقرات مفتوحة على كل الاحتمالات والاستعمالات الخطيرة لمواد القانون ونصوصه، حيث يمكن للسلطة أن تقوم بمتابعة مبدع أو فنان أو كاتب أو صحفي بحجّة “زعزعة الولاء للدولة” لمجرد إقدامه على نقد السياسات المتبعة، أو بتهمة “الاستهزاء بالدين أو بالذات الإلهية” لمجرد طرح موضوع المساواة في الإرث أو تعدّد الزوجات للمناقشة ، أو متابعة مواطن بتهمة المسّ بكرامة الموظفين الإداريين أو رجال الأمن لمجرد احتجاجه على بعض أساليب المعاملة المشينة، وهذا من شأنه أن يحول البلد إلى سجن كبير يعيش داخله رعايا مشبوهون إلى أن تثبت براءتهم.
وقد سمعت من يقول إنّ الروح التي وضع بها مشروع القانون الجنائي هي روح المحافظة التي تقتضي مجاراة المجتمع انطلاقا من فكرة الاستجابة لـ”تقاليد الأغلبية”، والحقيقة أنه لم تم تبني هذا المنظور في أي بلد من بلدان العالم لما كان هناك تقدم أصلا في أي مجال من المجالات، بل يصبح الدستور نفسه بهذا المنظور باطلا لأنه لا يتضمن بالضرورة ما تريده الأغلبية المحافظة، كما يصبح منطق الدولة المدنية نفسه ومنطق المواطنة عديم المعنى مادام لا يتطابق مع التقاليد الجماعية.
إننا نذكر واضعي مشروع القانون الجنائي بأن الآراء التي تخالف رأي الجمهور أو الأغلبية ليست بالضرورة خاطئة ولا تعدّ جرائم يعاقب عليها، والدليل على ذلك أنها في أحيان كثيرة تصبح بعد خمسين سنة أو أقل أو أكثر هي رأي الجمهور ورأي الأغلبية بعد أن يكون قد قتل أو ظلم بسببها أناس كثيرون. ومن هنا ضرورة تحلي واضعي القوانين بنزعة مستقبلية منفتحة.
لقد كان مخالفا لرأي الجمهور أن الأرض كروية الشكل وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، وهي اليوم حقيقة معروفة لدى الأطفال الصغار وبكل تفصيل.
كان مخالفا لرأي الجمهور كذلك أن تخرج المرأة من البيت أو تسعى للتعلم أو للعمل ومشاركة الرجال في الفضاءات الرسمية، وكان هذا الجمهور يبصق في وجه قاسم أمين كلما مرّ في الشارع تعبيرا عن مقدار الحنق الذي تثيره أفكاره التحرّرية، وها هي المرأة اليوم تثبت تفوقها في الدراسة وكفاءتها في كل المجالات، وها هم المحافظون أنفسهم، الذين ما زالوا يسعون إلى الحجر على النساء قانونيا، يعملون على التمكين لنسائهم في البرلمان وداخل المؤسسات وكراسي الوزارات.
كان رأي الجمهور قبل عقود هو عدم لبس اللباس العصري واعتبار ذلك “تشبها بالكفار”، وهاهم المغاربة اليوم لا يلبسون في غالبيتهم الساحقة إلا اللباس العصري، ولا يلبسون اللباس التقليدي إلا في بعض المناسبات الموسمية أو الاحتفالية.
وكان رأي الجمهور وعامة المسلمين أن من قام باعتناق دين آخر يُنبذ ويقتل ويُعتبر خائنا لـ”الأمة” وخارجا عن “الجماعة”، وها هي الدولة المغربية اليوم توافق في المنتظم الحقوقي الدولي على رفع تحفظها عن حرية العقيدة، فلم يعد الشباب المغربي الذي يحاكم بتهمة اعتناق المسيحية يجرم ويزج به في السجون بل أصبحت تصدر في حقه أحكام بالبراءة، لكن يبدو أنّ مشروع القانون الجنائي لم يستوعب بعد هذه التحولات، كما يبدو أن الحزب الذي يرأس الحكومة لم يفهم معنى حرية المعتقد عندما تبناها في مؤتمره الأخير.
وإذا كانت حرية الأفراد من مظاهر الدمقرطة والتحديث في المجتمعات المعاصرة، فإن السعي إلى الحجر على الفرد والتضييق عليه وخنقه بأنواع الرقابة لهو من مظاهر التأخر والجمود، ذلك لأن تحقيق الفضيلة الأخلاقية لا يحتاج إلى مصادرة حقوق الفرد وحريته، والدليل على ذلك أن الكثير من مظاهر الأخلاق الفاضلة والمعاملة الإنسانية الراقية نجدها في المجتمعات المتقدمة حيث ينعم الفرد بحرية أكبر، خلافا للدول الدينية والتي تسود فيها منظومة قيم مغلقة مبنية على الرقابة والحصار اليومي، حيث تنتشر كل أنواع الرذائل مقنّعة بمظاهر التدين السطحي والكاذب.
إن السعي إلى معاقبة المواطنين نيابة عن الله أو عن النبي هو أسلوب معروف في الدول الدينية القديمة، حيث كان الحاكم يتماهى مع الدين ومع الرسل والآلهة لكي يفرض نفسه على الناس ويجبرهم على الخضوع له والامتثال لسلطته الزمنية، وهو أسلوب تجاوزه الزمن ولم يعد يمكن العودة إليه إلا بالنسبة لمن يريد إعادة إنتاج مساوئ الماضي البعيد.
وحتى إن استطاعت السلطة في تحالفها مع المحافظين تمرير مثل هذا القانون التسلطي، فإن ما سينجم عنه من مظالم سيعجّل لا شك بتغييره.
إن مشروع القانون الجنائي المقترح هو قانون من ما قبل 1912 وُضع لواقع 2015، من طرف تيار عُرف عنه معاكسته لمكتسبات الدولة الحديثة، ورغبته في استعادة نظام اجتماعي لم يعُد موجودا، كما لم يعد ثمة مبرّر لإحيائه.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد