أغاليط الوعي الزائف حول الدولة
بقلم : ذ. امحمد لقماني
ثمة نقاش صاخب و جريء يحتل بعض مواقع التواصل الإعلامي و الاجتماعي، مضمونه وجود تهديدات و مخاطر وشيكة و مؤكدة تتربص بالبلاد ، بعضها ( أي التهديدات) يقال أن مصدرها خارجي فيما البعض الآخر يتزعمه الطابور الخامس .
رواد هذا النقاش، حتى وإن افترضنا فيهم حسن النوايا و الغيرة الوطنية، إلا أن نتيجته تكاد تكون عكسية، إذ لا يقف في حدود البناء الخطابي، بل يقـود إلى تغذية الرأي العام بأفكار و هواجس ليس لها ما يبررها، و أكثر من ذلك تذهب في اتجاه تبخيس الدولة و التشكيك في قدرة مؤسساتها على مواجهة مختلف المخاطر، بغير قليل من الخفة ومن الفقر الفكري والنظري بمفهوم الدولة و تطورها.
المغاربة، مهما اختلفوا وتجاذبوا فيما بينهم، فإن فكرة الانتماء للوطن تجمهعم و الولاء للدولة يُوحدُ كيانهم. فالمغاربة عاشوا و منذ زمن بعيد في كنف هذا الوجدان الأصيل الذي أبقاهم أحراراً وعصاةً عن التطويع و الاحتواء رغم عنف الإيديولوجيات و قسوة الغزوات ووطأة المؤامرات والتواطئات.
نعم، المغاربة، لديهم كل المقومات الأصيلة في الثقافة والانتماء و التدين و السياسة ، التي تسمح بتوطين فكرة الدولة الحديثة في البيئة المغربية بدون إكراه أو إسقاط أو استنساخ. ولعل هذا الرسوخ للدولة يعود، في جزء كبير منه، إلى تلازمها ( أي الدولة) للملكية في تجسيدهما معا للكيان الجامع.
هذا التلازم إلى حد التماهي يسبغ على النظام السياسي المغربي طابعا خاصا يميزه عن انظمة سياسية أخرى حيث تتماهي الدولة مع الحزب ( الصين) أو القبيلة( افريقيا) أو العائلة( امارات الخليج) أو الإمام( ايران) أو العسكر ( الجزائر).
والملاحظ في التجربة المغربية أن مختلف التحولات و النقلات النوعية في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر للبلاد، لم تُبْنَ قط على القطائع الكبرى بقدر ما تأسست على نهج الاستيعاب تارة والتوافق البناء تارة أخرى. وهذا النهج شكل دوماً مخرجاً هادئاً من الأزمات والتوترات، وإسمنتاً للبناءات و التراكمات.
وكل من لم يستفد من هذه الدروس المستقاة من صميم تاريخ الدولة بالمغرب، فإنه يحكم على نفسه بالاغتراب حتى وإن كانت تحليلاته وأطروحاته تمتلك بعض عناصر الجاذبية والتماسك النظري. وهذا عين ما أصاب بعض نخب اليوتوبيا التي وجدت نفسها قليلة الحيلة أمام مغرب أبان عن ممانعة عجيبة أمام هول الصدمات السياسية و الهزات الامنية ، بما فيها تلك الآتية رياحها من خارج الديار؛ فلا مشروع الحزب الوحيد نجح، و لا انقلاب عسكري نجح، و لا ثورة اشتراكية نجحت، و لا الفكرة الجهادية الاسلاموية نجحت، بل وحتى موجة ما سمي بالربيع العربي المحمول على فكرة الفوضى الخلاقة في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، أبانت من خلالها الدولة بالمغرب على قدرة هائلة على الاستيعاب و التكيف الإيجابي و امتصاص الصدمات، عكس أغلب المجتمعات العربية التي سقطت فيها الدولة كقصر من رمال و دخل أهلها في أتون حروب أهلية أتت على الاجتماع الوطني بالخراب و الدمار.
فما الذي جعل الدولة تسقط هناك و تصمد هنا ؟ هي أربعة عوامل سوسيوسياسية تقف وراء متانة الدولة و فاعليتها الاجتماعية، تنبه لها المغرب مبكرا غداة الاستقلال لكن أهملتها باقي الدول العربية و الافريقية، و هي عينها العوامل التي ميزت الذكاء الاستباقي للمغرب في توقع المخاطر و تدبير الأزمات :
1- منع الحزب الوحيد و اعتماد التعددية الحزبية و النقابية ؛
2- إبعاد الجيش عن السياسة ؛
3- إبعاد الدين عن السياسة و تحصين المجال الديني داخل حقل إمارة المؤمنين ؛
4- اعتماد نهج اقتصادي منفتح.
لذلك على دعاة التخوين و المهووسين بنظرية المؤامرة ، أن يتملَّكوا وعيا بمفهوم الدولة في النسق السياسي المغربي في تطوره التاريخي و ليس انطلاقا من شبكة قراءة مؤدلجة لا صلة تَشُدّها إلى الواقع الموضوعي للمغرب.