أبطال التفاهة
بقلم : أحمد عصيد
قبل أيام استقبلت إحدى القنوات العمومية التابعة للدولة مواطنا مغربيا بمناسبة بلوغه ملايين المشاهدين على اليوتوب، ليس لأنه اخترع شيئا جديدا أو برز في مجال من مجالات العمل والإنتاج أو دافع عن قضية عادلة أو قدم تضحية ما من أجل الإنسان أو حتى الحيوان، بل فقط لأنه رقص بشكل متشنج بجوار شاحنته.
أن يتحدث عن هذا المواطن في شبكات التواصل الاجتماعي فهذا أمر طبيعي، لأن معيار النجاح في تلك الشبكات ليس أهمية المضامين بل عدد المتابعين، ولهذا تهيمن التفاهة على كل شيء آخر، لكن أن تستقبله قناة عمومية وتقدّمه على أنه نموذج للنجاح يطرح أكثر من مشكلة، فالقنوات العمومية، مثل المدرسة تماما، عليها أن تقدم القدوة من خلال عرض التجارب الوطنية والإنسانية التي تحفز على الإبداع والعمل والإنتاج، سواء داخل الوطن أو خارجه، حيث تلعب دور الملهم للشباب من أجل إيجاد طريقهم في الحياة والاشتغال بحماسة لهدف أسمى، وهو بالتأكيد ما لا يقدمه المواطن المذكور، الذي تم استدعاؤه لا لأنه في مهنته حفر العديد من الآبار في مناطق مهمشة، بل فقط لأنه حصل على ملايين المشاهدات بفضل رقصة لبضع دقائق.
لم يعد البطل على اليوتوب هو من قام بعمل خارق أو مفيد أو ممتع، بل فقط من حقق نسبة متابعة عالية حتى ولو كان ذلك بنزع ملابسه أو إظهار سوأته أو التلفظ ببعض الكلام النابي والبذيء أو قلب الكلمات ونطقها بشكل خاطئ، أو السبّ والشتم لغيره، أو مارس الإرهاب والدعوة إلى الكراهية، أو فقط بالرقص بشكل متشنج. فالشخص المؤثر هو الأكثر إثارة، ولا شيء يثير أكثر من الأمور التافهة الفاقدة لكل معنى.
في نفس الأسبوع أخبرتنا وسائل الإعلام عن مغاربة نبغوا في مجالات عديدة، لكنهم لم يحظوا باستقبال التلفزة، منهم الشابة المغربية التي نبغت في أولمبياد الرياضيات خارج الوطن واحتلت الرتبة الأولى، ومنهم المواطن المغربي الذي اخترع سيارة تسير بالهيدروجين الأخضر، ومنهم نساء مغربيات نبغن كأفضل نساء مؤثرات على صعيد شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وغيرهن كثير، وهكذا صار يبدو أن التفوق والنجاح في قطاعات الحياة العملية والابتكار والإبداع لم يعد يثير اهتمام الناس ووسائل الإعلام، إذ وضعت موجةُ التفاهة من هو أقلّ موهبة وأقل أهمية على عرش النجاح والشهرة.
إن نقل معايير النجاح بالتفاهة من شبكات التواصل الاجتماعي إلى القنوات الإعلامية الرسمية هو عمل متهور وليس من الانفتاح الإعلامي في شيء، ذلك لأن تقليد الرداءة وتحويلها إلى نموذج للنجاح يفسد المشهد الإعلامي ويؤثر سلبا على تكوين الإعلاميين، دون الحديث عما لذلك من أثر سيء على أذهان المواطنين ونظرتهم إلى وظيفة الإعلام وإلى قيمة العمل ذاته.
على ممارسي الإعلام المهني الرسمي أن يحافظوا على مبادئ المهنية وقيمها التي أولها احترام المشاهدين والعمل على تأطيرهم وتثقيفهم وإخبارهم دون الوقوع في فخ التفاهة التي صارت موجة عاتية، لكن يمكن مقاومتها بالإعلام الهادف، الراقي والمسؤول.