الملكية الدستورية بين الشمال والجنوب..
بقلم :
شكل انهيار الديمقراطية في روما القديمة بداية ظهور أنظمة ملكية مطلقة في مختلف بقاع أوروبا، لكنها لم تعمر طويلا نظرا لعيوبها الاستبدادية، وعرفت القارة العجوز أحد أهم الأمثلة على هذا الصنف من الملكية التي حكمت لمدة طويلة، يتعلق الأمر بلويس الرابع عشر الذي أسس لأنجح الملكيات المطلقة، لكن مقولته “أنا الدولة” التي لخصت تركيز السلطة بين يد واحدة لم تصمد أمام نظرية العقد الاجتماعي، إذ اقتنع المجتمع الفرنسي بما طرحه جان جاك روسو و جون لوك وتوماس هوبز الذين دعوا للمساواة و الحرية و فصل السلط و فصل الدين عن الدولة، لتندلع أهم الثورات في العصر الحديث وهي الثورة الفرنسية التي أوقفت جبروت و تعنت قصر فرساي، ما دفع بالعديد من الملكيات الأوروبية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى التأسيس لنظام أكثر انفتاحا جعل من الشعب مصدرا للسلطة، وهو النظام الذي مكنها من العيش إلي يومنا هذا، عكس الملكية في فرنسا التي واصلت ديكتاتوريتها بزعامة نابوليون بونابارت و لويس الثامن عشر بعده شارل العاشر إلى أن نشأت الإمبراطورية الفرنسية بعد سقوط مملكة نابوليون الثالث على يد الاتحاد السوفياتي.
وتعتبر بريطانيا أول الدول التي استفادت من الدرس الفرنسي، حيت سارعت لتحويل نظامها الملكي من مطلق إلى دستوري أواخر القرن الثامن عشر، وهو النظام الذي حول السلطة من دواليب القصر إلى أيدي الشعب، ليأخذ بذلك شكلا برلمانيا صدرته إلى باقي الملكيات الأوروبية وكندا واليابان. نجاح هذا التوجه من الأنظمة الملكية مرتبط بمدى اقتباس دساتيرها لروح الديمقراطية، فهناك ملكيات دستورية أقرب للملكيات المطلقة رغم توفرها على مجالس شورى أو برلمانات لكنها ذات شكل ديكوري وصوري، كما هو الحال في بعض دولنا العربية والخليجية.
في المغرب طموح الشعب للحرية والمساواة منقطع النظير، فبالرغم من أن دستور 2011 منح بعض الصلاحيات للبرلمان والحكومة، يبقى النظام السياسي المغربي في حاجة مستعجلة للتنقيح والتعديل حتى يوازي أنجح أشكال الملكية الدستورية في العالم، تلك الموجودة في إسبانيا، فالملكية في المغرب ليست نظاما راكدا، بل من الطبيعي أن يتحرك ويتغير من عرش لآخر لكونه ثاني أعرق ملكية في العالم بعد اليابان.
التغير لا يعني بالأساس التقدم، وحتى إن اعتبرناه تطورا إلا أنه يتسم بالبطء، وغير قادر على مواكبة النسق العالمي العام، كما يخالف الجزئيات الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي انخرط فيها.
كما يعاب على الملكية في المغرب أخذها من النسب تبريرا لاهوتيا لسيطرتها الشبه مطلقة على العديد من جوانب حياة رعاياها، واحتكارها لعدد من الصلاحيات على حساب المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية وكذلك الدينية والإعلامية، إضافة إلى قيادتها للقوى العسكرية والأمنية، وهو ما يشكل عائقا في ظل التغيرات السياسة والاستراتيجية التي يشهدها العالم ومحيطنا الإقليمي بشكل خاص.
وبعد إطلاق المغرب لورش الجهوية الموسعة الذي يمكن اعتباره مدخلا أساسيا لحسم ملف الوحدة الترابية للمملكة، يكون قد دخل مرحلة انتقالية حساسة في مساره نحو الديمقراطية، ستلعب فيه الملكية الدستورية عنصر استقرار ورمزا لحماية القانون والديمقراطية، في ظل تشكل المملكة من كيانات اجتماعية عديدة ومتباينة.
وحتى يلعب العرش هذا الدور المحوري وينجح في إرساء جهوية موسعة سليمة، وجب حمايته بواسطة القانون وتزكية الملك رمزا ورئيسا للدولة، إضافة إلى توسيع مبدأ الانتخابات على كل الأصعدة: الوطنية والجهوية والمحلية.
بالاطلاع على صلاحيات الملك المنصوص عليها في دستور 2011، يتبين أن هذا الأخير متطابق بشكل شبه حرفي مع دساتير الملكيات المحدودة في أوروبا، لكن حالنا مختلف عن حالهم، و ذلك راجع -في اعتقادي الشخصي- لاختلال في التوازن السياسي و الدستوري المغربي، و الذي يعود إلى ما بعد المحاولات الانقلابية التي تعرضت لها البلاط، حيت ساد المغرب وضعا أمنيا و استخباراتيا، و تركزت ثقة الملك في الدائرة المقربة منه و التي أسست لحكومة ظل استحوذت على زمام الأمور و سيطرت على مفاصل الدولة، و وجهت الحياة السياسية على مقاسها، و عملت على تغييب الحكومات السياسية الفعلية عن طريق تجريم التحزب و إفراغ التنظيمات الحزبية من نخبها و تسميم الحياة السياسية، وما إلى ذلك من أساليب ذات طابع عقابي.
فالطريقة الوحيدة لإنجاح الجهوية الموسعة وباقي المشاريع الكبرى وكذا الحفاض على استقرار الدولة وضمان استمرار العرش تتمثل في القطع الآني مع كل هاته الممارسات وتصحيح هذا الخلل وإعادة التوازن الدستوري بدعم وتقوية الأحزاب السياسية نظرا لكونها أهم أدوات التفعيل الديمقراطي للنظام البرلماني في الملكية الدستورية الناجحة على الطريقة البريطانية، والمعروفة ب”Magna Carta”.