الجهوية و ” الامتحان الصعب ” في زمن كورونا….
بقلم : د. عبد الله بوصوف / أمين عام مجلس الجالية
حسب آخر إحصائيات جامعة جون هوبكينز الامريكية ، فقد قارب عدد ضحايا جائحة كورونا في العالم حوالي 4 ملايين و اكثر من277 الف قتيل.. بتصدر الولايات المتحدة الامريكية لعدد المصابين بمليون و 300الف مصاب ثم اسبانيا و إيطاليا و المانيا و بريطانيا و روسيا…
وهي ارقام تدعــو للقلق كما تدعو للتفكير و التأمل، اذ الملاحظ ان القاسم المشترك بين كل تلك الدول هي القوة الصناعية و العسكرية والبنية التحية القوية.. و انتشار ثقافة حقوق الانسان و التطوع و الديمقراطية..
لكن لغة تلك الأرقام أظهرت من جهة قوة و سرعة انتشار فيروس كوفيد 19 ، كما كشفت من جهة أخرى عن العديد من ” المناطق المظلمة ” على مستويات السياسة و الاقتصاد .. ومساحات تدبير الاختلاف السياسي و الايدولوجي سواء على المستوى الداخلي او على مستوى التحالفات الاستراتيجية العالمية…
لقد توقف العديد من الملاحظين عند إشكالية تقلص عدد الوفيات في هذه الدولة عن تلك رغم ارتفاع عدد الإصابات…وهو ما يعني توجيه الاتهام الى الفاعل السياسي و طريقته في تدبير الحرب على فيروس كورونا..بداءا من الإعلان عن الوباء الى الإعلان عن الحجر الصحي الى تدابير المرحلة الثانية و الرفع التدريجي للحجر الصحي .. و غيرها من تدابير الوقاية و توفير إجراءات الامن الصحي و الغدائي…
فمن المعروف ان غلب الدول الغربية تعتمد على أنظمة الجهوية و مناطق الحكم الذاتي … لتقديم إجابات سياسية تنسجم مع اختلافات مجتمعاتها المتعددة الثقافات و الديانات..وقد نجحت تلك الدول بفضل الجهوية كآلية لـسياسة للقرب من المواطن و باتت ” الجهـة ” كمؤسسة دستورية تتقاسم التدبير الجماعي مع ” المركز “و تحتكره في بعض المجالات… كما اصبح لها مؤسسات تمثلها سواء لدى السلطة المركزية كوزارات مثلا ، او كلجان أوروبية للجهات داخل الاتحاد الأوروبي..باعتبار الجهات كاحدى آليات العمل الديمقراطي بالدول الغربية…
نفس الملاحظين اثاروا إشكالات قانونية و دستورية تتعلق بتقاطع اختصاصات مؤسسات الجهات مع السلطات المركزية و التي لعبت في اكثر من مناسبة دورا حاسما في توقيف و تعطيل فيروس كورونا ، أو في سببا انتشاره السريع…
وهو ما جعلنا نقف عند اختلاف الجهوية بين الدول الغربية نفسها…فجهوية المانيا مثلا ليست هي جهوية فرنسا او إيطاليا او البرتغال …وهكذا…
و قد لوحظ أيضا كيف سمحت القوانين باحتكار مؤسسات الجهات لـتدبير قطاعات معينة ومن بينها الصحة…وهو ما جعل السلطة المركزية في المركز الثاني في بداية تدبير جائحة كورونا …وهذا ما لا حظناه في الواقع من خلال تجارب الولايات المتحدة الامريكية حيث انتظرت السلطات الفيدرالية تدخل رؤساء الولايات الامريكية..كما انتظرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل و كذلك فعل جوزيبي كونتي رئيس الحكومة الإيطالية والاسبانية…
ففي اسبانيا مثلا تم اللـجوء الى الفصل 116 من الدستور ، من اجل اعلان حكومة بيدرو سانشيز لحالة الطوارئ لتنفيذ كل إجراءات الوقاية و الحجر الصحي على كل التراب الاسباني …في ظل تدبير غلبت عليه تراكمات تاريخية و سياسية و انتخابية خاصة في مناطق الباسك و كطلونيا و الاندلس …و استغلال سياسي لاحزاب المعارضة خاصة الحزب الشعبي و حزب فوكس اليميني المتطرف…
و في إيطاليا فيتم العمل بمراسيم قوانين لرئيس الحكومة بناءا على مرسوم قانون 6 فبراير 2020 و ما تلاه من تعديلات ، بناءا على المرسوم التشريعي رقم 1 -2018 المتعلق بمدونة الوقاية المدنية…مع التنبيه بوجود قوانين أخرى تفوض الاختصاص للبلديات في حدود ضيقة في ما يتعلق بإعلان اجراءت الطوارئ…اما الدستور الإيطالي فينص في مادته 117على ثنائية الاختصاص في مجال الصحة و الوقاية المدنية بين الدولة المركزية و الجهات..بحيث يعطي للأولى أي السلطة المركزية تشريع التدابير العامة و يترك للجهات تفصيل إجراءات التنفيذ…
لذلك فقد لاحظنا تدخل القضاء الإداري الإيطالي مرتـيْـن ( المحكمة الإدارية للفينطو و المحكمة الإدارية لمنطقة كالابريا ) لصالح السلطات المركزية و ذلك بالغــاء قرارات بعض رؤساء الجهات في ظل ” قانون الطوارئ كوفيد 19 ” النافذ فـوق التراب الإيطالي …
اما المانيا ، فهي تعرف جهوية جد مرنة و تسمح لكل من السلطة الفيدرالية و رؤساء الجهات بمساحات مهمة بحيث ان إجراءات الحجر الصحي تختلف من جهة الى جهة أخرى…لكن يجب القول ان نقطة القوة في محاربة المانيا لفيروس كورونا هي قـوة منظومة مؤسساتها الصحية ، و التي حالت دون وقوع اكتضاض داخل المستشفيات أو إرهاق كبير للأطر الطبية…فالمانيا تتوفر على حوالي 1942 مستشفى و 497الف سرير و نظام تأمين طبي حديث و متطور انطلق منذ 1883مع المستشار بمسمارك لذلك يطلق عليه اليوم ” نموذج بسمارك “…
و في ظل كل هذه التجاذبات السياسية و تنازع الاختصاص بين السلطة المركزية و الجهات ، خاصة في ظل تدابير قانون الطوارئ كوفيد 19..و في ظل استفزازات اليمين المتطرف خاصة في إيطاليا و اسبانيا و هنغاريا فيكتور أوربان…حول جدولة رفع الحجر الصحي او المطالبة بتكوين حكومات وطنية تحت دريعة حماية الاقتصاد الوطني…حاولت السلطات المركزية امتصاص تلك الاستفزازات بتكوين لجان علمية أو برلمانية مشتركة كاسبانيا نموذجا ، لإعطاء تصورات مستقبلية بما فيها مستقبل اسبانيا داخل الاتحاد الأوروبي…
ففي ظل كل هذه الأرقام و الصراعات السياسية ، بــرز النموذج البرتغالي كنقطة ضوء في تعامل الدول الغربية في حربها مع فيروس كورونا ..رغم ارتفاع معدل الشيخوخة و ضعف البنية الصحية للبرتغال مقارنة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي ..
فاول ملاحظة يمكن التوقف عندها ان الجهوية في البرتغال تختلف عن مثيلاتها في باقي دول الاتحاد الأوروبي ، و ان التنظيم الإداري تـغلب عليه المركزية اكثر من الجهوية ، خاصة في مجال تدبير قطاع الصحة… وهو ما بـرر السرعة في اتخاد القرارات وتطبيق إجراءات الطوارئ يوم 18 مارس بعد وصول عدد الإصابات بكورونا فقط 448 إصابة ، في حين أن الجارة اسبانيا مثلا أعلنت الحجر الصحي بعد آلالف الحالات…بمعنى انها استفادت من التوقيث المتأخر في تسجيل الإصابات بعد كل من إيطاليا و إسبانيا..
و قـد سُجل الحس الجماعي في تطبيق الحجر الصحي ، إذ ان 45% من البرتغاليين خرجوا مرة واحدة خلال الأسبوع اثناء الحجر الصحي..اما من الناحية السياسية فقد تميزت بإعلان رئيس المعارضة ” روي ريو ” التضامن و التعاون مع رئيس الحكومة ” أنطونيو كوستا ” لان الامر لا يتطلب المعارضة بل التعاون…
وهو ما جنب البرتغال سجالات سياسية و أيديولوجية ، كتلك التي تُـشعلها أحزاب يمينية متطرفة في إيطاليا أو تطلعات انفصالية في اسبانيا..وسهل اتخاد قرارات سياسية مهمة في زمن كورونا كاعلان حالة الطوارئ و الرفع التدريجي من الحجر الصحي و اطلاق سراح السجناء لتخفيف الضغط داخل السجون و تجنب العدوى ، و تسوية أوضاع المهاجرين السريين و طالبي اللجوء بالبرتغال…
من كل هذا يمكننا القول ان مؤسسة الجهوية هي نتيجة تراكمات سياسية و فكرية و أيضا أيديولوجية … الهدف الأساسي منها هو تطبيق سياسة القرب و تقديم إجابات سياسية واضحة لكل انتظارات المواطن / الناخب…
لكن هل كانت جائحة كورونا امتحانا حقيقيا لاختبار مدى فعالية مؤسسات الجهات في مقابل اختصاصات السلطة المركزية..؟
هل كان تباين و اختلاف مؤسسة الجهات في دول أوروبا هو عامل قوي في إضعاف فيروس كورونا أم سببا في انتشاره…؟
و كيف تـنتقـل الجهوية من آلـية لـسياسات الـقرب ..الى رهينة إيـديولوجيات سياسيـة أوروبية في زمن كورونا…؟
عبد الله بوصوف…