زنقة 20 . الرباط
بقلم : أحمد عصيد
سمعت من يقول من أتباع حزب العدالة التنمية، بعد النتائج التي حققها في الانتخابات الأخيرة، بأنّ نجاحه في المدن وإخفاقه في البوادي معناه أنّه حزب “حداثي”، وأن خصومه بنجاحهم في البوادي هم تقليديون قرويون، وأن على الذي يبحث عن الحداثة أن يلتمسها عند حزب “المصباح” وليس عند خصومه.
ولعل هذه من المغرّبات التي أسفرت عنها الانتخابات الأخيرة، والتي ما أكثر ما كشفت عنه من مفارقات. وتدلّ بما لا يدع مجالا للشك على أن مشكلتنا، نحن الحداثيين، مع إخواننا من التيار المحافظ، هي قبل كل شيء مشكلة مفاهيم.
فحزب العدالة والتنمية يريد أن يوصلنا إلى الحداثة بـ”أثر رجعي” عبر جولة في التراث الفقهي القديم ومنظومة القيم التقليدية التي ارتبطت بمجتمع سابق لم تعد معظم هياكله وبنياته قائمة، وعبر تقاليد دولة الخلافة التي اندرس أثرها وانمحى رسمها، وهي جولة قد تستغرق قرنا آخر لكي نصل بعدها إلى التيقن بضرورة الديمقراطية وضرورة العلمنة وفصل الدين عن الصراعات السياسية.
لقد نبهتُ أكثر من مرة إلى أنّ التيار المحافظ، بعد أن فشل في مواجهة مفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان اضطر إلى محاولة الالتفاف عليها عبر استعمالها مع إفراغها من مضامينها الفلسفية والقيمية، وشحنها بمدلولات تتعارض مع جوهرها، وهذا ما حدث بالنسبة لمن حاولوا إسباغ صفة “الحداثة” على حزب يسعى إلى ترسيخ التقليد، بل نشأ أصلا من أجل إيقاف مسلسل التحديث والدمقرطة. ولنبت في جوهر الخلاف:
ـ الحداثة فكر وقيم وليست مظاهر خارجية ترتبط بتقنيات الحياة العصرية، فدول الخليج الغارقة في التخلف العشائري تستعمل أكثر صيحات التكنولوجيا حداثة بسبب وفرة السيولة الريعية، لكنها ليست دولا حديثة، بل ليست دولا أصلا، يقال نفس الشيء عن التنظيمات الإرهابية الدولية، كما أن حزب العدالة والتنمية يمكن أن يكون جيد التنظيم ويستعمل وسائل تكنولوجية حديثة بسبب وفرة المال لديه، ولكن “الحداثة” ليست شيئا يُشترى بل هي وعي وبناء، كما أنها صفة لا تطلق على حزب ما إلا بالنظر إلى مشروعه المجتمعي وأهدافه ونظرته إلى الإنسان والعالم، وهذه العناصر كلها هي سبب أزمته في علاقته بالنخب المغربية، لأنها بالصيغة التي بلورها الحزب المذكور لا صلة لها بالحداثة من قريب أو بعيد، بل على العكس من ذلك فهي تعمل على استعادة مجتمع ونظام قيمي قديم لا تريد النخب الفاعلة العودة إليه.
ـ كان المدخل المؤدي إلى الحداثة هما فكرتا “المساواة” و”الحرية”، وهما معا تحاربان من طرف حزب العدالة والتنمية، بل إنه يحاول الآن تصفية الحساب معهما في مسودة مشروع القانون الجنائي، ما يجعله حزبا يسير في اتجاه معاكس لمسلسل التحديث.
ـ يعتمد حزب العدالة والتنمية على بعض عوامل التأخر المترسّخة في المجتمع (في الحواضر مثل البوادي) من أجل تقوية موقعه واستمالة بعض الفئات من المجتمع، مثل احتقار النساء ورفض فكرة المساواة، وعدم التسامح مع عناصر الاختلاف، والنفور من مظاهر التحرّر الفردية، ورفض أولوية الإنسان بوصفه قيمة عليا، وهي كلها عناصر مرتبطة بالحداثة فكرا وسلوكا، ويجد الحزب في المدن ضالته بسبب تعمق أزمة الهوية وانعدام تدبير عقلاني لعلاقة الفرد بالدولة، مما يجعل مشاعر الانتماء إلى “الجماعة” الدينية تتقوى على حساب الوعي المواطن، وهذا الضعف يعود أساسا إلى فشل مسلسل الدمقرطة أو تعثره، وكذا فشل برنامج التمدّن العقلاني، وهي الفجوة التي تتسرب منها جراثيم التطرف والإسلام السياسي.
ـ يسعى حزب العدالة والتنمية ـ بطرق مراوغة ـ إلى منازعة الملك في السلطة الدينية، حيث بدون ذلك لن يستطيع أبدا الوصول إلى مبتغاه، ومعنى ذلك أنه يعمل على ضرب أسس تقليدانية النظام الملكي باستعمال التقليد نفسه، أي تعويض إمارة المؤمنين بدولة الفقهاء، وهذا لا يخرج الحزب من دائرة التقليد ولا يجعل منه حزبا “حداثيا”. لأن الحداثة قطعت مع الاستعمال السلطوي للدين في الدولة، بعد أن ثبت أنه الباب المؤدي إلى الفتنة واللاستقرار.
ـ في التركيز على استعمال المساجد التي يروّج بعضها لقيم مضادة للتطور، نجد الملامح التقليدية الواضحة لحزب العدالة والتنمية، فالمسجد قوة تسمح للسلطة وللتيارات المحافظة بفرملة مسلسل التحديث الذي تعتبره خطرا عليها، إذ أنّ نجاح التحديث يعني بالنسبة للسلطة نهاية الاستبداد، ويعني بالنسبة للإسلاميين نهاية وصايتهم على المجتمع وانهيار مشروعهم في استعادة الدولة الدينية.
ـ في مناصرة الحزب لمظاهر البداوة في الوعي والسلوك داخل الوسط الحضري تتجلى أيضا النزوعات التقليدية لحزب المصباح كما للسلطة أيضا، فالدولة الحديثة قامت أساسا على تفكك الروابط القديمة وخاصة منها رابطة الجماعة الدينية المنسجمة، التي تنبذ ما سواها، وتذكي مشاعر النفور نحو غيرها، وهو ما كان يبرّر الحروب المقدسة التي انتهت مع الأزمنة الحديثة، وهذا ما يفسر لماذا ظلّ المسلمون يتخبطون في الحروب الدينية والطائفية إلى اليوم، فقد فشلوا في بناء الدولة بمعناها الحديث، وظلت فكرة “الجماعة” تعوض عندهم معنى المواطنة، وهذا ما يفسر أيضا تحريض “اتحاد علماء المسلمين” على خوض تلك الحروب عوض العمل على فض النزاعات لأنهم يتغذون عليها ويقتاتون منها إيديولوجيا وماديا، بل إنهم يخافون من نهايتها، لأن ذلك سيؤدي في إطار سلمي إلى ترسيخ الدولة المدنية الحديثة، العلمانية الطابع، وهي الدولة التي ما زالوا يجدون صعوبة في الوعي بالانتماء إليها.
خلاصات:
ـ نجاح حزب العدالة والتنمية في المدن هو من مظاهر فشل التحديث وليس دليلا على حداثة الحزب.
ـ نجاح خصومه في البوادي لا يعني أنهم قرويون، بل فقط أن الكلمة تبقى للأعيان المحليين، كما أنّ الدعاية الدينية لا تنجح في تلك المناطق، التي تخلو من أزمة الهوية التي تمزق المدن بعد عقود من المحاولات العشوائية للتحديث.
استدراك:
لكن لا ننسى أن حزب العدالة والتنمية كان حداثيا حقا عندما وقع على اتفاقية “سيداو”، بعد أن عارضها بشراسة لسنوات، كما كان حداثيا عندما وقع اتفاقية المساواة مع الاتحاد الأوروبي، لكننا نعلم أن هذه التوقيعات كانت على مضض، بسبب كونها التزامات عليا للدولة، لقد تمت بصيغة “مكره أخوك لا بطل”، ولهذا تم تكليف التيار الدعوي بإحداث بعض الضوضاء في حدود، لكنها نقطة تقدم تسمح للحزب الإخواني بأن يتمرّن بعض الشيء، وبالتدريج، على معنى الحداثة، ومن يدري، فعوض أن يقوم بـ”أسلمة الدولة” كما يخشى البعض ذلك، قد تقوم الدولة بـ”علمنته”.