بقلم : أحمد عصيد
لا يتعلق الأمر ـ كما يعتقد كثيرون ـ برأس السنة الميلادية فقط وبأسطوانة التشبّه بـ”الكفار”، التي تعاد على مسامعنا كلّ سنة، بل بما هو أخطر من ذلك، فالحرب ضدّ مظاهر الفرح والاحتفال المحلية والوطنية هي حربٌ يومية تقريبا وشاملة، وتمتد على طول السنة، تستهدف احتفالات المغاربة من كل نوع، وتتم بأساليب يختلط فيها العمل الخيري والمال والتأطير الديني المتشدّد في المساجد ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
فقبل أسابيع فقط طالبت الجبهة الوطنية لمناهضة التطرف والإرهاب وزارة الداخلية والنيابة العامة بالتحرك لوضع حدّ لما أسمته “عصابة من الإرهابيين” تصدر قرارات في زاكورة باسم الأعيان، “حيث تمنع الموسيقى وتقاليد الأعراس وتفرض عقوبات على مخالفي أوامرها”. وقبل ما يقرب من عام نشرت مجلة “تيل كيل” ملفا عن محاربة الاحتفالات ورقصات “أحيدوس” في المغرب الأوسط من طرف جمعيات السلفيين الذين يقترحون مبالغ مالية من أجل عدم إقامة الحفلات الراقصة في الأعراس والمواسم، والاكتفاء بقراءة القرآن فقط، وبالطريقة السعودية، ولأجل ذلك أكثروا من بناء المساجد الفخمة في مناطق تفتقر لكل البنيات الأساسية. كما قاموا بتدريب فرق محترفة من الأشخاص تقوم بنفس المهام في العُرس كما في المأتم والجنازة: قراءة القرآن وإلقاء “دروس دينية”.
إنه مخطط يتجاوز حدود التراب الوطني، إذ هو نفسه في العديد من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مرماه البعيد الهيمنة على الدولة والاستيلاء على مراكز النفوذ والسلطة والثروة، والوصاية على القيم، أما وسائله وآليات اشتغاله وطرق عمله فتفضي إلى استهداف ثقافة المغاربة وهويتهم وفنونهم العريقة، أي الحياة برمتها، وليس فقط رأس السنة الميلادية، والسؤال المطروح هو أي جنس من البشر هم هؤلاء الذين تزعجهم الكلمة الشعرية واللحن المؤثر والرقصة والإيقاع والبهجة التي تشيع في النفوس الأمل والحبور وحبّ الحياة ؟ من أية طينة اشتقت هذه الأرواح المظلمة التي تعتبر الفرح والحبّ والجمال إثما عظيما وجريمة، فتنقبض لمجرد رؤية الناس في حالة انشراح ؟
أتذكر بأن هذه القصة بدأت أمام ناظري سنة 1979، في أعالي جبال الأطلس الصغير، كان أحد الفلاحين البسطاء يتهيأ لإقامة عرس ابنته، عندما حلّ ببيته شخصان من عائلته ملتحيان بشكل غريب وغير مألوف، وكان مجيئهما لسبب واحد ووحيد، أن يجعلاه يتراجع عن إقامة الحفلات المعهودة في العرس، وخاصة رقصة “أحواش” الشهيرة، وعندما فشلا في إقناع الرجل الطيّب باقتراحهما الغريب، قاما بتهديده بمقاطعة العُرس وعدم الحضور فيه، فكان ردّ صاحب العرس كالتالي: “إذا كنتم ترغبون في مشاركتنا فرحنا فمرحبا بكم، أما إذا جئتم من أجل التنكيد علينا وتحويل فرحنا إلى مأتم فأنتم أحرار في البقاء أو الانصراف” وفعلا انصرف الشخصان مغضبين ولم يقضيا ليلتهما في القرية، حتى لا يشاركا “الكفار” في إثم الفرح والاحتفال.
ما لم يفهمه الشخصان المتشدّدان آنذاك هو أن البضاعة التي جاءا بها من الشرق، من السعودية وباكستان تحديدا، والتي تسمى “الوهابية”، لم تكن ملائمة لثقافة المغاربة ولعاداتهم، وليست هذه أول مرة يحدُث فيها هذا النوع من التصادم بين ثقافتين، بل يروي المؤرخون أنه حدث عند عودة ابن تومرت من المشرق حاملا الكثير من الأفكار المتشدّدة، حيث رفض وهو قادم من الجزائر المبيت عند أهل “كرسيف” لأنه وجدهم يتهيئون لإقامة حفلة عُرس راقصة، وعندما لم يستمعوا إليه قام مغضبا ليلا وغادر بلدتهم متجها إلى فاس ثم مكناس، حيث يروي صاحب كتاب “الإعلام بمن حل بمراكش من الأعلام” بأنه اصطدم مع الكثير من الناس في طريقه بسبب إصراره على رفض عادات قومه التي لم تكن سوى عادات الاحتفال والفرح، وهذا ما يفسر كون الدولة الموحّدية التي سيؤسسها ابن تومرت قائمة على القتل والرعب وسفك الدماء منذ البداية، وما يفسر كذلك أسباب سقوطها الذي نجم عنه حسب أحد المؤرخين أن “تنفس الناس الصعداء” بعد أن كانوا في كابوس مرعب.
والغريب أن المتشدّدين الذين يشيعون كراهية الحياة لا يتعلمون شيئا من دروس الماضي، فكل الأنظمة التي قامت على العسكرة وحظر الاحتفال والفرح كان مصيرها السقوط ، فقد سقط “الطالبان” كما سقطت “داعش” و”جبهة النصرة” و”أنصار الشريعة” و”بوكو حرام”، وستتغير السعودية رغما عنها والسودان كذلك، وستسقط كل أنظمة الرعب التي تحارب جوهر الإنسان: الحبّ والجمال.
ومن بين العِبَر التي ينبغي للمتطرفين الدينيين الاعتبار بها ما حدث للملالي الإيرانيين من أصحاب العمائم السوداء والبيضاء بعد ثورة الخميني عام 1979، فقد شنوا هجوما عنيفا على أعياد “النيروز” التي كان الشعب الإيراني الفارسي يحتفل بها منذ آلاف السنين، وهي شبيهة بأعياد رأس السنة الأمازيغية بالمغرب وشمال إفريقيا، لكن كل جهودهم ذهبت سدى حيث تشبث الشعب الإيراني بتقاليده العريقة وأعياده وبلغته الفارسية، وخسر الملالي المعركة، فعادوا يتملقون الوجدان الشعبي متظاهرين برضاهم عن تلك الأعياد معتبرين إياها “غير متعارضة مع الإسلام”.
ومن العِبَر كذلك التي لا يأخذ بها المتشدّدون ما نجده في العصور الإسلامية الأولى التي عرفت ازدهارا نسبيا يفخر به المسلمون اليوم، وهي العصور التي عرفت رواج العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة والآداب والفقه والمعمار بجانب الغناء والطرب والأشعار والحفلات الراقصة واستهلاك الخمور والإقبال على الملذات الحسية وفنون الطبخ من كل نوع، وهي المظاهر التي وصفها بدقة كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، والتي اختفت جميعها في عصور الانحطاط وظلمات الجهل، التي لم تُعرف فيها علومٌ قيّمة ولا آداب رفيعة ولا فنون جميلة ولا فقه نيّر، ولم يسُد فيها سوى التطرف الديني وفقه الانغلاق والكراهية، فهل ما زال التاريخ يُعيد نفسه ؟.