الحريات العامة بين الدستور والقوانين والممارسة السلطوية
بقلم : أحمد عصيد
مضت ستون عاما على إقرار الحريات العامة وسن قوانين لحمايتها بالمغرب، حيث وضعت مدونة الحريات العامة في نونبر من سنة 1958، وعلى امتداد المسافة الزمنية التي تفصلنا عن ذلك التاريخ، عرف الشارع المغربي مختلف الانتهاكات الجسيمة للحق في التعبير الجماعي والتنظيم والتجمهر السلمي ولحرية تكوين الجمعيات ، كما عرفت الإدارة المغربية لوزارة الداخلية أشكالا وألوانا من التهرب من تسليم وصولات الإيداع للتنظيمات الناشئة.
ظلت السلطة على امتداد المسافة الزمنية التي تفصلنا عن فجر الاستقلال، تلجأ في كثير من الأحيان إلى منطق العنف والغلبة، كما ظلت تعمد إلى أسلوب المراوغة والتملص من المسؤولية، لحرمان التنظيمات المغربية من الوجود أو من العمل أو التعبير، ولمعاقبة الأشخاص الذين ينخرطون في تنظيمات معينة جمعوية أو حزبية أو نقابية، ما يجعلنا نتساءل عن جدوى وجود مدونة للحريات العامة إذا كانت السلطة لا تعترف بتلك الحريات في سلوكها ومنطق اشتغالها.
ولقد أدى ترافع الجمعيات الحقوقية والمدنية عامة بسبب الواقع المشار إليه إلى تجديد الترسانة القانونية المتعلقة بالحريات العامة سنة 2002، بإصدار قوانين جديدة للتنظيمات وللتجمعات العمومية. ورغم توسع النسيج الجمعوي المغربي إلى حد تجاوز المائة ألف جمعية، وخاصة بعد مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة وسعيه إلى الإكثار من الجمعيات التابعة له ما بين 2012 و 2015، إلا أن السلوك السلطوي للدولة لم يتوقف تجاه الجمعيات التي تعمل في إطار معارض، أي خارج التصور الرسمي للحكومة وتوجهات للسلطة.
ومنذ سنة 2011 التي عرفت الحراك الشعبي كما شهدت مراجعة الدستور المغربي، ظهر ثمة تحديان جديدان يفرضان نفسهما على الدولة المغربية، ويحتم عليها إعطاءهما الاهتمام اللازم: الأول يتمثل في تزايد الاحتجاج الشعبي غير المؤطر تنظيميا (حراك سيدي إفني ـ الحسيمة ـ زاكورة ـ إلخ …) والثاني وجود قوانين متجاوزة بعد مراجعة الدستور، حيث أصبحت تقتضي نوعا من التحيين لكي تصير مطابقة للالتزامات الجديدة للدولة، هذه الالتزامات التي لم تقم الدولة بتفعيلها بقدر ما أظهرت اتجاها حثيثا نحو مزيد من السلطوية والعنف، والقفز على المساطر القانونية، كما تجلى في المحاكمات الصورية للسنوات الأخيرة، والتي اتخذت رغم كل المظاهر والمساحيق الخارجية طابع المحاكمات السياسية.
من جانب آخر يبدو بأن موضوع الحريات العامة يقتضي ليس فقط وضع قوانين ومراجعتها بين الفينة والأخرى، بل وضمان استقلال القضاء الذي يعدّ من المرتكزات الأساسية لدولة القانون وللحياة الديمقراطية، ولعله من الصادم أن نقول بأننا بعد 62 سنة من الاستقلال ما زلنا نشاهد بشكل سافر تدخل السلطات في عمل القضاء بشكل مخل وفاضح، ما يجعل الحديث عن الحريات العامة مجرد تمرين ذهني أو بلاغة جوفاء بلا معنى.
سيكون على المغاربة كذلك البتّ في ما إذا كان من الضروري الحفاظ على ازدواجية الدولة التي تتمظهر بشكل صارخ بين الدستور والقانون الجنائي، (وهذا يخصّ أيضا جانب الحريات الفردية)، حيث يبدو الأول كما لو أنه واجهة معروضة للخارج، فيما يتمظهر الثاني في صيغة الوجه الحقيقي للدولة في علاقتها بالمجتمع، والتي تعتمد منطقا مغايرا للمنطق الدستوري التعاقدي.
إن الاستمرار في مراجعة القوانين وتنظيم لقاءات حولها دون وضع الأسس الصلبة للانتقال الفعلي نحو الديمقراطية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وبإرادة سياسية واضحة، ومكتسبات حاسمة لا رجعة فيها، لن يكون إلا نكئاً للجراح، واحتفاء بنكباتنا وغمتنا التي لا تبدو أنها ستعرف انفراجا قريبا.