مشاهدٌ من فنلندا. عندما يكون الإنسان هو الرأسمال الأول
بقلم : أحمد عصيد
في زيارتي القصيرة لفنلندا، فهمت بعمق أكبر من خلال نموذج مجسّد، معنى أن يكون الإنسان هو الرأسمال الأول للنهوض والتفوق.
تحتل فنلندا الرتبة الأولى عالميا في التعليم، ووراء هذه الرتبة عمل جبار أساسه الإيمان بالإنسان طاقة للفعل وللعمل الصالح والبنّاء. ليست لدى هذا البلد ثروات طبيعية، لا بترول ولا معادن نفيسة، ما جعله يعتبر أن الثروة الوحيدة التي يملكها إلى جانب الطبيعة الخلابة، هي الإنسان، باني الحضارة، وصانع التاريخ.
أرسى الفنلنديون نظامهم التربوي على أساس مبادئ كيفية لا كمية، وأولاها احترام براءة الطفولة، والحق في اللعب والترفيه، مع التركيز في البرامج الدراسية على مبدأ الحرية والإبداع عوض التقويم والعقاب، ولهذا لا يثقلون كاهل التلاميذ بالدروس الكثيرة ولا بالمواد المزدحمة، ولا بضرورة الحفظ والاستظهار بدون فهم، كما لا يفاضلون بين التلاميذ، ولا يميزون “المجتهد” عن “الكسول”، إذ يعتبرون كل التلاميذ أذكياء وينتظرهم مستقبل زاهر في مجال ميولهم ونبوغهم، كما يجعلون غاية النظام التربوي هو تأهيل المتمدرسين وجعلهم مواطنين صالحين يساهمون في نهضة بلدهم.
يتمّ تكوين التلاميذ على مبدأ رئيسي هو الثقة، الثقة في الذات وفي الآخر وفي المؤسسات والقانون، ومنها التربية على مبادئ الصدق والأمانة وأداء الواجب واحترام مبدأ المساواة التامة بين الجنسين، الذي هو مبدأ مقدس، وكذلك نظافة الفضاء العام، ويعتبرون أن تلك هي الأخلاق بمفهومها العقلاني الواسع، الذي يشمل كل الاختيارات الشخصية الأخرى ويؤطرها، حيث يصبح الاعتقاد الديني مثلا مؤطرا داخل المجال الأخلاقي العقلاني العام الذي يجعل من المستحيل فهم العقيدة بشكل منحرف أو توظيفها للإضرار بالغير، إذ أن المبادئ الأخلاقية السامية التي ذكرنا والتي يتربون عليها لا تسمح لهم بذلك.
من هذا المنطلق تعتبر الضريبة مقدسة، لأنها أساس خدمات الدولة، كما يعتبر العمل قيمة عليا لأنه أساس نهضة البلد. وتحتل المرأة مكانة مرموقة في الدولة الفنلندية، ومنشأ هذا الاحترام الجهود التي بذلتها النساء في العمل في كل القطاعات أيام الحرب، عندما كان الرجال يذهبون إلى جبهات القتال، حيث كانت النساء هن اللواتي تقمن بكل الأعمال الأخرى، ما جعلهن يكتسبن خبرات كبيرة في الفلاحة والصناعات والأعمال اليدوية. وقد وهبت النساء جميع حليهن الذهبية وغيرها لتمويل الحرب من أجل التحرّر من الاستعمار الروسي، وكن يكتفين بوضع سلك رخيص حول أصبعهن مكان خواتم الذهب والفضة.
في الغابات المحاذية للبحيرات الرائعة الجمال، تجد العديد من المنازل الجميلة المبنية بأخشاب الشجر على الطريقة القديمة، وتربط بينها ممرات رومانسية أخاذة، وهي بيوت الشعراء والمبدعين من القرون السابقة، وقد تم الحفاظ عليها وتنظيم زيارات سياحية إليها، وخاصة لتلاميذ المدارس، وتحتوي البيوت على ملابس أولائك الكتاب والمبدعين وأدواتهم وأثاثهم الذي ظل على حاله مصونا محفوظا.
كان كل شيء شاهدته جميلا متناسقا ويخضع لنظام يحترمه الجميع، لا تجد في هذا البلد نقاشا سياسيا صاخبا ومهيّجا، لأن الشأن العام يتم تدبيره بناء على تعاقد محسوم يقبل به الكلّ لأنه يحميهم جميعا بدون تمييز، لم يخدش هذا الجمال والتناسق البهيّ إلا شيء واحد وهو ما سمعته من بعض المغاربة المقيمين هناك حول إمام مسجد بهلسنكي، الذي سبق له أن أعلن مرة بدون حياء أو خجل، بأنّ أموال “الكفار” حلال على المسلمين، أن يأخذوا منها ما شاءوا، فإذا كان الفنلنديون قد بنوا دولتهم على أساس مبدأ الثقة، فإن الإمام يصوب سلاحه نحو ذلك المبدأ الأساس ، لأن غرضه تخريب الدولة التي لا تقوم على شريعته الدينية. صدق من قال: “إتق شرّ من أحسنت إليه”.
إن الذي قال للمسلمين قبل حوالي تسعين سنة بأن نهضتهم لا يمكن أن تكون على نفس الأسس التي قامت عليها نهضة البلدان الغربية المتقدمة هو مجرم حقيقي، فلن تنهض هذه البلدان أبدا بغير النظم التربوية التي تعمل على بناء الإنسان المواطن قبل كل شيء.