عصيد: مشكلتنا مع الدعاة وفقهاء التشدّد
بقلم: أحمد عصيد
سألني أحد المواطنين الطيبين الراغبين في الفهم والمعرفة، والذين لا ينطلقون من أحكام مسبقة وجاهزة بغرض الإضرار بالغير، سألني ما هي مشكلة العلمانيين والحداثيين مع رجال الدين والدعاة والخطباء ؟ وفي ما يلي جوابي له بتدقيق وصدق ونزاهة:
ـ مشكلتنا مع رجال الدين هي دخولهم في مزايدة مع دعاة الإسلام السياسي، فظهر نهمهم إلى السلطة والتحكم، وسعيهم إلى أن تكون لهم الغلبة على مصائرنا لكي يقرروا بدلا عنا نمط حياتنا. بينما مهمتهم الحقيقية التعريف بالدين وشرحه وتعليم الأفراد المؤمنين كيف يمارسون شعائرهم في أمان وطمأنينة. وهي مهمة أصبحت تبدو لهم مهينة ودون مستوى طموحاتهم، لأن عيونهم أصبحت عالقة بكراسي السلطة والترأس.
ـ مشكلتنا مع هؤلاء أنهم يريدون أن يحدّدوا مصائرنا دون أن يعطونا الحق في مناقشتهم، يريدون الجمع بين الدين والدولة دون أن يعرضوا الدين للمحاسبة، بينما مجال السياسة هو مجال للمحاسبة سواء للأشخاص أو للنصوص القانونية المعتمدة، يحاسب الأشخاص على تجاوزاتهم، كما تراجع النصوص وتغير بحسب المصلحة والسياق وضرورات الوقت، إذ لا يجوز السكوت عن الظلم أيا كان مصدره. فمن أراد النأي بالدين عن النقد والمحاسبة فليبعده عن السياسة.
ـ مشكلتنا معهم أنهم لا يفهمون بأن المقدس إنما هو الذي يظل في حدود الشخصي، أما الفضاء العام فهو للجميع، ما يجعل مستحيلا تحويل المقدس فيه إلى قواعد عامة، لأن تقديرات الناس في الأمور الروحية والعقدية تختلف اختلافا كبيرا.
ـ مشكلتنا مع هؤلاء أننا نرفض أن يصادر رجال الدين حياتنا وإنسانيتنا وحقنا في الإيمان بما نشاء، والتفكير كما نشاء، وإعلان ما نصل إليه من نتائج حسب اجتهادنا وقدراتنا البشرية المحدودة، ولهم بعد ذلك أن يصحّحوا أخطاءنا وينبهونا إليها بتقديم الحجّة والبرهان الصحيح عليها إن توفر لديهم، ومحاورتنا بمنطق العقل والعلم والواقع إن كانت لهم القدرة على ذلك، لا بأسلوب الزجر والتحريض وإشاعة الكراهية.
ـ مشكلتنا مع هؤلاء أننا نرفض أن ينصبوا أنفسهم آلهة علينا، لأنهم بشر مثلنا يخطئون ويصيبون في آرائهم، والمعضلة أن أخطاءهم ليست كأخطاء غيرهم لأنها تجني على الناس وعلى الدولة، وتكون لها نتائج كارثية على كرامة الرجال والنساء والأطفال.
ـ مشكلتنا معهم أنهم يتحدثون في أمور لا يفهمونها، ويحكمون فيها اعتمادا على معارفهم البسيطة بالفقه التراثي القديم، وأحيانا بمزاجهم الفردي وأهوائهم الخاصة، فيصدرون أراء غريبة، ثم يستعينون بعواطف العامة من أجل تكريسها وتثبيتها وإشاعتها رغم إضرارها بالمجتمع وبعلاقة المواطن بالدولة وبالقانون.
ـ نرفض وصاية رجال الدين لأنهم صورة لتخلف مجتمعاتهم، فهم يجدّون ويبذلون قصارى جهودهم من أجل الاستجابة لظروف التخلف وتقديم الفتوى المكرسة لنُظم العلاقات الاستبدادية، مما يجعلهم يعتبرون التقدم عدوا لهم وخطرا على مصالحهم.
ـ لا نضع ثقتنا في رجال الدين المسيّسين والدعاة المهيّجين من ذوي القلوب الفظة الغليظة والألسن السليطة لأنهم ارتكبوا أخطاء فادحة ظهرت مع مرور الزمن فلم يعتذروا عنها، مما يعني استعدادهم لتكرارها من جديد، لا يصدّهم عن ذلك إلا الدولة الحديثة ومؤسساتها، ولهذا ينتظرون ضعفها ليعودوا إلى سابق عهدهم.
ـ لا نرتاح لفقهاء الإسلام السياسي لأنهم يضعفون الوطنية المغربية والرابطة المواطنية بتركيزهم على الرابطة العقائدية وحدها دون غيرها، حيث يحولون المجتمع إلى “جماعة” دينية مغلقة، ويقصون من لا يجدونه خاضعا لمعاييرهم وضوابطهم، ويعتبرون الاختلاف “كفرا” وزيغا وجريمة نكراء، بينما هو أمر يقرّه الدين نفسه ويعتبره حكمة إلهية.
ـ لا نثق في الدعاة والفقهاء المسيّسين لأنهم لم يستفيدوا شيئا من علوم عصرنا رغم الفتوحات الجبارة التي حققتها، بل يبذلون قصارى جهودهم ليصرفوا نظر الناس عنها، حتى يتمكنوا من ترويج أقاويل وبديهيات لا تثبت أمام العقل والعلم والواقع. فبينما يلزمهم العلم بتغيير أسلوبهم القديم في التفكير، تراهم يتجاهلونه لأنهم لا يريدون تصحيح أغلاطهم.
ـ لا نشعر بالثقة في الدعاة والفقهاء لأنهم يعتبرون أنفسهم ممثلين لله على الأرض، وهم لا يرقون حتى إلى مستوى فهم فكرة الألوهية ذاتها، أي فكرة الخير المطلق والجمال المطلق، لأنهم حسّيون محدودون، فقراء في معارفهم، يختزلون الدين في وصفة نهائية ينبغي تطبيقها في السلوك اليومي، بينما الدين أعمق من ذلك.
ـ لا نثق في فقهاء التشدّد ولا نعتبرهم “علماء”، لأن العلماء ليسوا هو الذين يجيدون الانتصار للموتى والحديث باسمهم، أو من يسعون إلى إخضاع الحياة المتجدّدة لوصفات جاهزة ومحنطة، بل العلماء الحقيقيون هم الذين يجدون للأحياء حلولا عملية في مستوى تعقد الراهن وطموحات المستقبل، مع صون الكرامة الإنسانية التي هي أسمى الغايات.