معاني الدولة، السلطة، والوطن
بقلم : أحمد عصيد
تختلط في أفهام الناس المفاهيم أعلاه، فيستعملونها في اتجاهات مختلفة ولأغراض ومرام متباينة، وذلك حسب السياق والمواقف والمصالح وموازين القوى والعوامل المتحكمة في الفرقاء والفاعلين الرئيسيين في الساحة السياسية والثقافية. غير أن هذا الخلط لا يعني تغير تلك المفاهيم أو التباسها في حد ذاتها، بل يعني أساسا أن المعجم السياسي يتأثر بالسياقات المختلفة، مما يؤدي بالناس إلى خلط الكلمات بعضها ببعض.
وقد اتصل بي أحد الأصدقاء يدعوني إلى هذا التدقيق، خاصة بعد تصريحي الذي تناولت فيه دلالات بعض الرموز التي ترفع في الشارع من طرف المتظاهرين، حيث أشرت إلى ضرورة التمييز بين الدولة والوطن والسلطة.
يكتسي مفهوم الوطن طابعا وجدانيا يغلب عليه الجانب العاطفي، فرغم أنه في المنطلق يرمز إلى الأرض التي يولد بها الإنسان ويكبر ويشعر فوقها بالانتماء إلى الجغرافيا، إلا أنه يتجسد في ذهن الإنسان من خلال مجموع مشاعر التعلق بالأرض التي تعتبر إرثا تركه الأجداد للأحفاد، الذين عليهم الحفاظ عليه والدفاع عنه إن اقتضى الأمر، ولهذا يرتبط الوطن بمعنى التضحية والفداء، ما يفسر تكريم ذكر المقاومين والفدائيين والوطنيين، الذين يعتبرون في كل بلد رموزا لهذه المشاعر الوجدانية الدالة على معنى الوطن. ويحاط مفهوم الوطن بهالة من التقديس تجعل المواطنين يعبرون عن مشاعر الحب والتعلق بالأرض، ويتمظهر ذلك في الأدب الذي يتم إبداعه لهذا الغرض من شعر حماسي وطني وأناشيد وطنية، يتم اعتمادها بكثافة خاصة في السياقات التي تعرف فيها البلدان تهديدات خارجية، وذلك من أجل التعبئة والتأطير الوطنيين.
ويعتبر الشعور الوطني ضروريا باعتباره المحفز الوجداني للفرد من أجل خدمة الصالح العام، حيث يتجاوز أنانيته الفردية من أجل التفكير في الكل، أي في الكيان الوطني، غير أن الشرط الضروري لتحقيق هذا الشعور هو أن يطمئن الفرد إلى أن عمله وحصيلة جهوده تذهب للمجموع لا لفئة معينة أو طبقة أو عائلة، حيث في غياب هذا الشرط يضعف الشعور الوطني لفائدة الأنانية الفردية والمصلحة الشخصية.
أما الدولة فهي مفهوم أكثر إجرائية، إذ يتجسد من خلال مؤسسات الحكم التي تقام على تراب وطني، من أجل تنظيم وتدبير وتسيير شؤون بلد معين، ورعاية مصالح “شعب” يقيم على ذلك التراب الوطني، اعتمادا على قوانين وسلط محددة، وهو ما يجعل المحددات الثلاثة: الأرض، الشعب والحكومة (المؤسسات)، مجسدة لمعنى الدولة.
وإذا كان مفهوم الوطن يكتسي طابعا وجدانيا وعاطفيا كما أسلفنا، فإن مفهوم الدولة يكتسي طابعا قانونيا وإداريا وسياسيا، وتتمثل العلاقة بينهما في أن الوطن يسمح باستمرار الدولة ودوام قوتها، حيث عندما تضعف المشاعر الوطنية التي تشكل لحاما بين الناس يؤدي ذلك إلى انفراط عقد الدولة وضعفها بتراجع شرعيتها وظهور النزعات الانفصالية مثلا.
ويخلط الناس بين الدولة والسلطة وذلك لوجود علاقة دقيقة بينهما، مما يستوجب بيان ذلك، فلكي تعمل الدولة على تدبير وتنظيم شؤون شعب أو مجموعة بشرية مقيمة على تراب بحدود معينة، فلا بد من سلطات تسهر على ذلك عمليا، وتنبع هذه السلطة من المؤسسات التي عليها تطبيق القوانين المعمول بها، ولتطبيق القوانين لا بد من سلطة إلزامية تجعل المجتمع يخضع ويقبل بتنفيذ تلك القوانين واحترامها، ومن تم ظهرت السلطة التشريعية التي تضع القوانين، كما تميزت السلطة القضائية التي تصدر الأحكام والعقوبات وتتولى الحكم بين الناس وبين المؤسسات، وتحددت كذلك الحكومة باعتبارها سلطة تنفيذية.
وتستمد السلطة شرعية عملها من النظام العام الذي تعتمده الدولة، وأفضل الأنظمة هو النظام الديمقراطي الذي يقوم على سيادة الشعب وسمو القانون، كما يمنع من غلو السلطة وتجاوزاتها.
وقد تتضح هذه المفاهيم عمليا عندما نضعها في السياق المغربي، فالوطن يعني “المغرب” الذي ندافع عنه في مواجهة أي تدخل أجنبي كالاستعمار أو الإرهاب، كما يتجسد مثلا في المشاعر التي تجعل المغاربة يتحمسون للفريق الوطني لكرة القدم ضد فريق دولة أخرى، وهو ما يجعل العلم الوطني والنشيد الوطني يلعبان دورا محوريا في إلهاب حماسة الجمهور.
أما الفارق بين الدولة والسلطة فيمكن تدقيقه من خلال المثال التالي: تعمل الدولة المغربية كما ينص على ذلك دستورها على حماية حرية التعبير وحماية كل من يبلغ عن فساد أو خرق للقانون، لكن السلطة (داخل دواليب الدولة) تعمل على عرقلة هذا الالتزام لحماية خدامها الفاسدين، حيث يقوم أفراد السلطة المستفيدون من الفساد من استغلال نفوذهم ووسائل الدولة من أجل معاقبة من يبلغ عنهم وحماية أتباعهم من أية متابعة قضائية.
يتضح من هذا المثال أن مصدر الخلل في بلادنا هو عدم الفصل بين السلط وعدم استقلال القضاء، وهي كلها مكونات للدولة، (أي عدم استكمال مقومات النظام الديمقراطي المشار إليه) وهو خلل يؤدي إلى تجاوز الحكام ذوي السلطة لمهامهم الحقيقية، وتوظيفهم للسلطات الأمنية وللقضاة خارج الإطار الذي يحدده القانون، وهذا يؤدي إلى الشعور العام بالظلم من طرف المواطنين الذين من المفروض أنهم منبع كل السلط، ومنبع شرعية الدولة نفسها.