تعليم الأمازيغية يتمّ خارج مبادئ المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص
بقلم : أحمد عصيد
من بين النتائج الهامة للدرس الأنثروبولوجي الحديث، فكرة تساوي الثقافات واللغات من حيث قيمتها الإنسانية، وكذا فكرتا “النسبية” و”الخصوصية” باعتبارهما خاصيتين ملازمتين للثقافة، النسبية التي فتحت الباب أمام إقرار التعددية والتنوع وتجاوز الفكر الأوحد، والخصوصية التي أعادت الاعتبار للاختلاف الثقافي وحكمت بتراجع فكرة التنميط والتأحيد والاتجاه نحو خلق التجانس المطلق.
هذه الأفكار العلمية كان لها تأثير كبير على الخطاب الحقوقي الدولي الذي سرعان ما تنبه منذ منتصف الستينات إلى أهمية التعددية اللغوية والثقافية في حياة الشعوب والدول، فأقرّ ضرورة احترامها في إطار فكرة المساواة المبدئية بين البشر، خاصة وأن الكثير من هذه الثقافات واللغات لا تمسّ في شيء بالمنظومة الكونية لحقوق الإنسان ولا تتعارض مع الحقوق والحريات كما هي متعارف عليها عالميا.
ونظرا لأن المغرب ينتمي إلى الدول التي تعاني من تأخر تاريخي يجعله في معزل عن التطورات العلمية المتلاحقة، فإن الانتباه إلى فكرة تساوي الثقافات لم يتمّ إلا بشكل متأخر، كما لم يتم إقراره دستوريا إلا بعد عقود تمّ فيها تشكيل وعي الغالبية عبر الترويض الإيديولوجي على فكرة الأحادية، التي ارتبطت بالنموذج التقليدي للدولة الوطنية المركزية.
ولعلّ المعاناة التي عاشتها اللغة الأمازيغية داخل نقاشات المجلس الأعلى للتعليم تعكس إلى حدّ بعيد أزمة الوعي التقليدي في استيعابه لمفهوم الوطنية ومعنى المساواة، حيث ما زال كثير من أعضاء المجلس المذكور ينظرون إلى الأمازيغية خارج مكتسبات عصرنا العلمية والسياسية، كما أنهم ما زالوا يجهلون كل شيء عن مسلسل تهيئة اللغة الأمازيغية ومأسستها منذ أزيد من 12 سنة .
وجد المجلس صعوبة في إقرار اللغة الأمازيغية لغة معمّمة في جميع أسلاك التعليم كما تقرر منذ 2003، كما وجد صعوبة في أن يقبل بمساواتها مع اللغة العربية رغم ما ينصّ عليه الدستور، ورغم تاريخ التفاعل والتبادل الطويل الذي عاشته اللغتان على الأرض المغربية منذ أزيد من ألف عام، كما وجد صعوبة في وضع أجندة موضوعية تبرز بتواريخ دقيقة مراحل الإدراج التدريجي للغة الأمازيغية في سنوات الإعدادي والثانوي، وذلك حتى يبقى التنفيذ عالقا إلى ما لا نهاية.
والغريب أن السيد عزيمان وهو يقدّم تقرير الرؤية الاستراتيجية للمجلس أمام الملك، أكد على أن التقرير صيغ في إطار توجه يهدف إلى تحقيق “الإنصاف وتكافؤ الفرص”، بينما لا يمكن أن ينعت ما تم إقراره ـ وبصعوبة ـ بالنسبة لتدريس الأمازيغية إلا باستمرار عقلية الميز، حيث تمّ تجنب جميع الصيغ المتعارف عليها والتي تفيد الحسم وتلزم الدولة بقرارات واضحة يتم تفعيلها في آجال محددة، كما أن المجلس لم يكن في الموعد فيما أسماه “توضيح الاختيارات اللغوية”، حيث ستظل الأمازيغية للأسف، ولعقود أخرى، في حالة ما إذا ما تمّ تبني هذا التصور الخاطئ، موضوع أخذ وردّ عوض أن يُطوى ملف الحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية بصفة نهائية وطبقا للدستور، هذا بعد أن أصبحنا ـ ويا للمفارقة ! ـ نموذجا يُقتدى في هذا المجال بالنسبة لدول الجوار.
هذه العقلية التي يحركها الميز، ويملأها الاستخفاف بما هو وطني وعريق، وتسكنها ثوابت الدولة المركزية التي تجمع بين ضوغما الفكر الأوحد والنموذج اليعقوبي للدولة الوطنية Jacobinisme) ( ـ وهما العاملان اللذان يشحذان الرغبة في الانتقام من مكتسبات القوى المدنية الحية ـ هذه العقلية مسؤولة إلى اليوم عن فشل العديد من البرامج والخطط الوطنية، وعن عرقلة إنجاح ورش التعليم، وهي عقلية يتظاهر أصحابها بأنهم فوق الصراع الإيديولوجي، وأنهم “خبراء محايدون” يفكرون في مصلحة البلاد، بينما هم في الحقيقة غارقون في الإيديولوجيا حتى العنق، بل إن من أسباب قصر نظرهم وسوء تدبيرهم للقضايا المعروضة عليهم، هذه الإيديولوجيا التي تحرك مواقفهم وتؤطر رؤاهم وتمنعهم من الربط بين مصلحة البلاد وبين ما يتحقق من مكتسبات تجعل المغاربة أكثر قربا من بعضهم البعض، وتجعل بلادنا نموذجا في فضّ النزاعات بشكل سلمي في إطار مصالحة وطنية حقيقية.
لم يوفق المجلس الأعلى للتعليم في أن يضمن للغة الأمازيغية المكانة التي تستحق في النظام التربوي، ولهذا فلا بدّ من تصحيح هذا الخطأ بتدارك الأمر على مستوى القانون التنظيمي الخاص بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، والذي سيكون عليه أن يحدّد بدقة مراحل إدراج هذه اللغة في التعليم وتعميمها على جميع أسلاكه بوضوح وشفافية، حتى يسمح بتقييم التجربة بشكل موضوعي، وبمحاسبة المسؤولين، وإنهاء الميز ضدّ اللغة الأصلية للمغاربة.