“البرقع” بين الحقوقي، القانوني والسياسي
بقلم : أحمد عصيد
أقدمت السلطات المغربية على إقرار حظر صناعة وبيع “البرقع”، وهو قرار يعني عمليا التمهيد لحظر ارتدائه في الفضاء العام، ما دفع ببعض النساء المنقبات إلى الاحتجاج أمام البرلمان ضدّ هذا القرار الذي اعتبرنه يمس بحريتهن في اختيار لباسهن.
يُلزمنا هذا بمقاربة هذا الموضوع من ثلاث نواح: الحقوقية، القانونية والسياسية.
فمن الناحية الحقوقية يبدو أن المرجعية الكونية لحقوق الإنسان قد اعتبرت اللباس ضمن الحريات الفردية التي يعود اختيارها إلى الفرد ذاته ، لا إلى أية قوة أجنبية عنه، فباستثناء المجالات المهنية التي تقتضي لباسا رسميا مفروضا لممارسة عمل أو نشاط ما مثل الجيش والأجهزة الأمنية والعمل في المناجم أو غير ذلك من أنواع النشاط الصناعي، فان اللباس بمفهومه اللارسمي المتعارف عليه إنما هو من حيث المبدأ حرية شخصية خالصة، قد تختلف درجة التمتع بها حسب السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية. فإذا كانت جميع الثقافات قد جرّمت العري التام في الفضاء العام، فإن القوانين والدول تركت للأفراد على العموم حرية اختيار لباسهم الذي يتمظهرون به في الشارع وداخل المؤسسات. باستثناء الأنظمة الشمولية التي اتخذت طابعا استبداديا قويا والتي حرست كما في إيران في ظل حكم الملالي أو لدى الطالبان أو السعودية على فرض لباس محدّد على النساء على الخصوص وإلزامهن به عن طريق الإكراه السلطوي، أو كما حدث في الصين أيام “ماو تسي تونغ” الذي فرض لباسا شيوعيا خاصا على الجميع، وهو نهج مخالف مخالفة تامة لما تنصّ عليه مرجعية حقوق الإنسان.
فاحترام الحريات، والحريات الفردية على وجه الخصوص، من المبادئ الأساسية للنظم الديمقراطية العلمانية عموما، حيث يقرّ القانون لكل واحد بحقه في اختيار نمط حياته، وحقه في أن يكون مختلفا، وبواجب الاحترام له ولاختياراته التي تتمّ بحريته خارج أي إكراه أجنبي، وما دام لا يؤذي أحدا باختياره ذاك. أي أنّ جوهر الديمقراطية هو احترام الآخر وقبوله كما هو، والتعايش معه بشكل سلمي في إطار القانون الذي يساوي بين الجميع مهما كانت ألوانهم ومعتقداتهم وأجناسهم وأنسابهم وألسنهم، ولهذا تتعارض الديمقراطية العلمانية تماما مع كل الإيديولوجيات الشمولية التي تسعى بوسائل السلطة والغلبة إلى فرض نهج معين على الجميع، ومنظومة قيم ثابتة على الكلّ.
أما من الناحية القانونية فليس في الترسانة القانونية المغربية ما يمنع لباسا محددا أو يفرض غيره، بل ترك المشرّع للمواطنين المغاربة حق اختيار لباسهم كان عصريا أو تقليديا، ويمثل الشارع المغربي نموذجا لهذا التنوع، حيث يتراوح بين أكثر الملابس عصرية وانفتاحا وأكثرها تقليدانية ومحافظة، بل يمكن القول بهذا الصدد إن القوانين المغربية وكذا الفضاء العام الوطني أكثر ديمقراطية وعلمانية من فرنسا، التي ما فتئت تسعى إلى فرض المزيد من التضييق على أنواع من اللباس وآخرها لباس البحر المعروف بـ”البوركيني” الذي أثار نقاشا حادا خلال الصيف الماضي.
غير أنه إذا كان الجانبان القانوني والحقوقي لا يطرحان أي مشكل بالنسبة لـ”البرقع” وكل الأنواع التي تدخل ضمن ما يُسمى بـ”الحجاب”، إلا أنّ الجانب السياسي والأمني يطرح إشكالات جديدة مرتبطة بسياقات غير مسبوقة يمرّ بها بلدنا كما هو شأن البلدان المغاربية والعالمية الأخرى، ويتعلق الأمر تحديدا بتزايد مظاهر التطرف الديني الذي لم يعد يقف عند حدود نمط الحياة الفردية، بل أصبح يطمح إلى أن يصبح أنظمة ودولا بقوة السلاح وكل أساليب الضغط الاجتماعي والتحريض الإيديولوجي، ما جعل الكثير من مظاهر التديّن الإسلامي تتحول بسرعة كبيرة إلى آليات للاستقطاب والتعبير عن الموقف السياسي، وكذا للتجمّع في فضاءات خاصة (في الأحياء المهمّشة) منعزلة عن المجتمع والدولة، وهو ما أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لاستقرار العديد من البلدان التي لم تعرف من قبل هذا النوع من الظواهر بهذه الحدّة. كما تبيّن من بعض الأحداث الإرهابية استعمال “البرقع” و”الخمار” وكل أنواع اللباس الذي يخفي الوجه والجسم بكامله في التخفي بعد اقتراف جرائم إرهابية خطيرة، ما دفع ببعض الدول الغربية إلى التحفظ على هذا النوع من اللباس في الفضاء العام، الذي سرعان ما أصبح يشيع الرعب في أوساط السكان في مناطق مختلفة من العالم.
لم تقدم السلطات المغربية أي تفسير للإجراء الذي اتخذته، كما أنها لم تتح لوسائل الإعلام أية معطيات دقيقة تسمح بمناقشة الموضوع أو بمعرفة مدى نجاعته وضرورته، وهو ما اعتبره الكثير من الحقوقيين ضربا من التعسف غير المبرّر، خاصة وأنّ الطريقة التي فرضت بها السلطات على تجّار “البرقع” التخلص من بضاعتهم في 48 ساعة، دون احترام لأية مساطر قانونية، أو دون أن يكون ذلك مسبوقا بتقديم مشروع قانون وفق المسالك المعتادة للتشريع، وفتح نقاش مستفيض في الموضوع، قد جعل القرار المذكور يبدو كما لو أنه اتخذ في حالة طوارئ غير معلنة.
إن قيام الدولة بحماية المجتمع من التطرف والغلو بكل أنواعه، وضمان التعايش السلمي بين الجميع يدخل ضمن مهامها الأساسية التي من أجلها وُجدت، غير أنها ملزمة بمراعاة مرجعياتها القانونية والسياسية وضوابط عملها، التي تمثل مصدر هيبتها لدى المواطنين.