زنقة 20 .
حسن طارق
الجابري مفكر عربي بامتياز، التزم سياسياً منذ كان شاباً، وعمل في صحافة الحزب، ثم أضحى عضواً في المكتب السياسي. وهنا، نسجل له دوره في التهيئة للمؤتمرات الحزبية والمساهمة في قراراتها، ووضع الأطروحات الفكرية وبيانات الحزب في القضايا الكبرى. وأذكر أنه حرّر بياناً سنة 1973، يدعو إلى إقامة ملكية برلمانية، وجدد حزب الاتحاد الاشتراكي هذه الدعوة مرات عدة في السابق، ولم يتحقق هذا المطلب، إلا في التعديل الدستوري عام 2011 في فترة الربيع العربي.
انهمك كثيراً في العمل الحزبي، وشارك في تحرير التقرير الأيديولوجي للحزب عام 1975، وآخر نشاطاته، عضو مكتب سياسي، كانت مساعدة قائد الحزب المرحوم عبد الرحيم بو عبيد. ولكن، أظن أنه لاحظ أن الوقت يفوته، فانصرف للاهتمام بالفكر، وحسناً فعل”.
هكذا استعاد الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، القائد اليساري المغربي والوزير الأول السابق، في حوارٍ نادرٍ مع (العربي الجديد)، نشر في 11 أبريل/نيسان الماضي، وأجراه الزميل بشير البكر، صديقه في السياسة والحياة، محمد عابد الجابري، الذي حلّت الأحد الماضي ذكرى رحيله الخامسة. وهي ذكرى، شكلت، مرة أخرى، مناسبة لاستحضار مساهماته الغنية في التأصيل والتأسيس لقيم الحداثة وأفكار التقدم والنهضة. وتسمحُ لبعضهم بتمرين ذهني، يروم قراءة تداعيات أحداث انفجارات 2011 التي لم يعشها الراحل، في ضوء مشروعه الفكري الكبير.
وبالنسبة إلى كثيرين، لا يمكن إغراء فكرة استعادة مسار صاحب نقد العقل العربي، من خلال التأمل في علاقته مع هَرَمٍ فكري آخر، هو عبدالله العروي، خصوصاً أن التفكير في العلاقة بين الرجلين يبدو في البداية، كما لو كان لعبة للمرايا المنكسرة، حيث يحتاج المرء إلى تجميع تفاصيل وجزئيات متشظية كثيرة، لإعادة بناء الصورة الأصل.
في الحوار المذكور نفسه، يصف اليوسفي عبدالله العروي بأنه “توأم” الفقيد الجابري، وهو توصيفٌ لاشك أنه سيكون مُفاجئاً لكثيرين دأبوا على النظر للشخصين والمشروعين، سواءٌ من حيث العلاقة الشخصية “الباردة” المليئة بالتعقيد، أو من حيث التقاطب الفكري الحاد.
مؤكد أن شيخ الاشتراكيين المغاربة، وهو الذي تفاعل مع مخاضات ولادة الثقافة الوطنية الجديدة في المغرب المستقل، وقضايا الفكر العربي، من موقع الممارسة السياسية والحقوقية الممتدة عقوداً، يملكُ زاوية أخرى للنظر في علاقة الجابري والعروي، زاويةٌ تمكنه من تلمس مساحات أوسع من التقاطع والاشتباك في مسارات الرجلين، ليس أقلها علاقات البداية التي ستجمعهما، كلٌ في سياقه الخاص، بالمهدي بن بركة، وبالحركة التقدمية الناشئة بين وطأة المحافظة وسطوة القمع.
لم يبدُ لي التوصيف غريباً، فعندما توفي الجابري، تكلف صديقه الكبير عبد الرحمن اليوسفي بالإشراف على تفاصيل حفل تأبينه، حينها سأعرف من الدكتور فتح الله ولعلو أن الوزير الأول السابق سيحرص، بشكل حثيث، على محاولة الاتصال بالعروي، لدعوته إلى الحضور في لقاء الأربعينية، وهو ما ظل، في النهاية، مجرد محاولة نبيلة، من سياسي كبير مفتون بالأبعاد الرمزية للأحداث والوقائع.
التفكير في العلاقة نفسها سيجعل المفكر كمال عبد اللطيف في مؤلفه “أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب”، وهو يعيد تركيب مشهد الفكر المغربي المعاصر، يخصص نصاً قوياً وجميلا في آن واحد، لبياضات وغموض واشتباكات العلاقة بين الرمزين، متحدثا عن “العروي في مرآة الجابري والجابري في مرآة العروي”، ومتسائلا عن كيفيات نظر كل منهما لمساهمة الآخر الفكرية، راصدا أنه، في حالات كثيرة، لم يكن الخلاف بينهما حول الأسس والمبادئ والمنطلقات، قدر ما كان خلافا في التفاصيل والجزئيات.
افتقدنا كثيرا كتابات الجابري وقراءاته وقائع “الربيع العربي”، وهي أحداث، على أهميتها، لم تشَكل أي إغراءٍ كفيل بإخراج العروي من خُلوته الفكرية، فقد بدا، في حواراته النادرة، حذراً من أي احتفالٍ متسرع بهذا الربيع المفاجئ. في المقابل، ترجم أحد نصوص جان جاك روسو حول “الدين الفطرة”. ربما تلك كانت طريقته للتعبير عن تخوفات ممكنة من تحول “ربيع” الديمقراطية الى خريف للأصوليات.
عدا ذلك، كان لانفجار نقاش مغربي حاد، خلال السنة الماضية، بشأن استعمال “الدارجة” لغة للتدريس، أثره القوي على خروج “مَشْهدي” لصاحب سلسلة المفاهيم، دفاعاً عن اللغة العربية، وهو الخروج الذي تجسد في حوارات فكرية في الموضوع، سواء مع الصحافة المكتوبة التي احتفلت بصيدها الاستثنائي، أو عبر مناظرة تلفزية غير مسبوقة على شاشة القناة المغربية الثانية.
خلال هذا العام، أصدر صاحب “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”، الكتاب الثالث من “خواطر الصباح”، وهي يوميات الكاتب التي يخصصها لانطباعاته السياسية المباشرة للأحداث وللشخوص في المغرب وفي الخارج. والجديد، في هذه الجزء، هو تفاعلات العروي مع لحظة جلوس الملك محمد السادس على العرش (العام 1999)، وملاحظاته حول طقوس البلاط وتقاليده.
رحم الله فقيدنا الكبير الجابري، وعمرا مديدا لأستاذنا العروي، ولكل حراس التنوير في المغرب العزيز، للأساتذة: محمد سبيلا وكمال عبد اللطيف وعبد السلام بنعبد العالي وبنسالم حميش ومحمد المصباحي وكل زملائهم، فربما يكون الفكر والتفلسف حظنا الأخير أمام بؤس السياسة وانحطاطها.