ساكنة كلميمة تستغيث: حرب الماء التي قد تقع

بقلم : أحمد عصيد

يبدو أن على المغاربة أن يأخذوا بعين الجدّ تحذيرات الأخصائيين حول مستقبل الحروب والنزاعات في مختلف بلاد المعمور،  والتي لن تبقى متمركزة حول الإيديولوجيا أو الطائفية الدينية أوالعرقية أو حول الحدود، بل ستتعلق أساسا بالماء والغذاء، ما يجعل الدول المستقرة مستقبلا هي تلك التي تضع سياسة مائية محكمة لتوفير حاجات سكانها وتأمين مواردهم الطبيعية.

لكن يبدو أن الدولة المغربية ما زالت لا تضع ضمن أولوياتها حاجات السكان إلى الماء والغذاء، وخاصة في المناطق المهمّشة والبعيدة عن المراكز الكبرى التي تستأثر بمراكمة الرساميل والأنشطة الصناعية والتجمعات الكبرى.

تنهج الدولة المغربية تجاه مناطقها النائية سياسة براكماتية تستلهم أدبيات الرأسمالية المتوحشة، التي تعمل على إغناء الغني وتفقير الفقير، وهي سياسة تهدف إلى توفير مجالات للاستثمارات الكبرى المُدرّة للأرباح، لكن عائداتها تعود إلى جيوب أقلية من أباطرة المستثمرين على حساب أغلبية السكان المتروكين لمصير مجهول، وعلى حساب البيئة وظروف الاستقرار والبنيات الاجتماعية والثقافية الأصلية.

في مناطق وادي “اغريس” يعيش عشرات آلاف السكان على زراعة معاشية واستقرار هادئ منذ قرون طويلة، في تضاريس خلابة ومناخ شبه صحراوي، وهو استقرار يتمحور أساسا حول منابع الماء الثلاثة الكبرى: “تيفوناسين” ، “بوخازم” و “تامدا ن مسعود”، منابع رغم محدوديتها ظلت تستجيب لحاجات السكان الحيوية، التي انبنى عليها نظام اجتماعي ـ اقتصادي وثقافي كامل، ولهذا حرص المستعمر الفرنسي على تحديد تلك المنطقة بكاملها بوصفها “منطقة حمراء” مهدّدة مستقبلا في مواردها المائية الهشة بسبب زحف التصحّر وقساوة الطبيعة.

لكن يبدو أن الدولة الوطنية المركزية المستقلة لا تحمل نفس همّ المستعمر، الذي رغم نزوعه الاستغلالي إلا أنه ظل يضعُ حدودا للاستغلال تمنع من هدم بنيات الاستقرار والإضرار بمصالح السكان الحيوية، فالمنطق الذي يحرك الدولة المغربية حاليا هو اعتبار تلك المناطق “مأهولة مؤقتا” بالسكان الذين عليهم المغادرة، لتتحول مناطقهم إلى فضاءات للاستغلال الفاحش من طرف مستثمرين جشعين لا تربطهم بالأرض نفس روابط السكان الأصليين. ويدلّ على هذا عدم حساب مصالح السكان ضمن المشاريع المخطط لها، ذلك أن اعتبار المشاريع الكبرى متيحة لفرص الشغل لبعض السكان عذرٌ لا يصمُد أمام المستقبل الكالح الذي ينتظر المنطقة كلها والمتمثل في الجفاف والعطش ثم الهجرة.

وتعرف منطقة “كلميمة” حاليا غليانا شعبيا كبيرا وتوترا بين السكان والسلطات بسبب مشاريع تقوم على كراء مئات الهكتارات لمستثمر سيقوم بحفر أزيد من ثمانين بئرا لسقي مزروعاته التي تتطلب كميات هائلة من الماء، وهو ما سيؤدي حتما إلى استنزاف عيون “تيفوناسين”  والتسبب في جفاف خطير ستكون له تداعيات سلبية على حياة السكان.

لكن الغريب في الأمر أن وثيقة إدارية موقعة من مدير وكالة الحوض المائي  لـ مناطق اغريس ـ كير ـ زيز  تثبت منذ سنة 2017 أن الفرشة المائية محدودة وتتميز بهشاشتها بسبب الطبيعة الصحراوية للمنطقة التي تعرف قلة التساقطات وزحف التصحّر، ما يعني أنها لا يمكن أن تتحمل استنزافا كبيرا كالذي تقوم به الضيعات العملاقة التي تمارس زراعة فواكه تتطلب سقيا متواصلا بكميات كبيرة من الماء مثل البطيخ الأحمر “الدلاح” والتمر “المجهول”. وجاء في الوثيقة المذكورة الموجهة إلى والي جهة درعة ـ تافيلالت وعامل إقليم الرشيدية ما يلي :”أحيطكم علما أن خلاصة الدراسات الهيدرولوجية والهيدروجيولوجية والجيوفيزيائية التي قامت بها الوكالة أبانت عن محدودية الموارد المائية خاصة الجوفية منها حيث لا يمكن الرهان عليها قصد إنجاز مشاريع فلاحية إضافية”.

أي أن الفرشة المائية الحالية تكفي بالكاد لسدّ حاجات السكان والضيعات الحالية، وأن أية مغامرة بكراء آلاف الهكتارات لمستثمرين جدُد من أجل سقي مزروعات مستنزفة للماء ستكون عواقبها وخيمة على كل المنطقة.

لكن يبدو أن السلطات قد سارت عكس هذه الحقيقة العلمية، حيث عمدت إلى كراء الأراضي واستخلاص واجب الكراء من المستثمرين الذين يستعدون لحفر الآبار والأحواض المائية الضخمة، مما حرك انتفاضة السكان.

ثمة جملة عناصر تساعدنا على فهم هذا التوجه الاستثماري الليبرالي المتوحش لدى الدولة المغربية:

1) أن السلطات لا تتواصل مع السكان الذين يفاجَئون بقرارات تضحي بمستقبل حياتهم بالمنطقة، حيث تتصرف السلطات كما لو أن الأمر يتعلق بـ”أرض خلاء” لا سكان فيها.

2) أن رأي الخبراء ونتائج الدراسات لا يؤخذ بعين الاعتبار عندما يتعارض مع مصالح السلطة والمستثمرين حيث يعلو الجشع الليبرالي على كل اعتبار آخر.

3) أن السلطات لم ترتدع أمام هول ما جرى بـ”زاكورة” و”تينجداد” و”بودنيب” حيث أدت استثمارات من هذا النوع إلى إشاعة العطش حتى لم يجد السكان الماء الصالح للشرب، ويتذكر الجميع كيف تعاملت السلطات مع تظاهرات العطش بزاكورة ، إذ واجهتها بالعنف والاعتقالات.

4) أن اختيار مزروعات تستهلك كميات لا معقولة من الماء في مناطق صحراوية مهددة بالعطش لا يمكن إلا أن يكون سياسة خرقاء يتصف أربابها بانعدام المسؤولية، فالمشاريع التنموية لا بد أن تكون مشاريع مواطِنة، لا توفر فرص الشغل فقط بل وتضمن استمرار الاستقرار والإنتاج والكرامة الإنسانية.

5) أن المنتخبين الذين صوت عليهم السكان قد بدوا أكثر حرصا على إرضاء السلطة من ميلهم إلى حماية مصالح الذين انتخبوهم، وهذا كفيل بدفع السكان إلى مراجعة حساباتهم الانتخابية والتعويل على طاقات بشرية بديلة للدفاع عن ممتلكاتهم وحياتهم المحلية. وهو دور المجتمع المدني والتنظيمات الاجتماعية التقليدية، التي لم تفلح الدولة الوطنية المركزية في تعويضها ببنيات تضمن حقوق المواطنة بمفهومها العصري.

إن سياسة “المشاريع الكبرى” التي تعطي الأولوية لأرباح المستثمرين على حساب السكان البسطاء هي سياسة لا وطنية، ومستقبلها مزيد من التصادمات والتوترات بين المجتمع والدولة، ومزيد من التفقير والتهجير القسري.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد