في رثاء محمد شحرور
بقلم : أحمد عصيد
كان همّه أن يجد للإسلام مكانا في عصرنا، وأن يحققالملاءمة المفقودة بين عقائد وممارسات ظهرت في مجتمع بعيد بقرون طويلة، ومؤسسات الدولة الحديثة التي جذورها في الأرض لا في السماء، فكان طبيعيا أن يتصادم مع فقه العصور الوسطى الذي أنتج في ظل الخلافة، وترك لنا ركاما هائلا من مصنفات تحولت بالتدريج إلى عوائق تشلّ الفكر والعقل.
كان خطابه خطاب تأويل، وصراعه صرخة ضدّ من يحتكر الفهم التفسير، وضدّ من يعمل المستحيل من أجل جعل الناس قطيعا تحت الوصاية والمراقبة، ولذا وجد نفسه في جبهة محاربة الجهل والعنف والكراهية، والتنظير للمحبة والإخاء والمساواة بين البشر، وتمجيد الكرامة والحرية في مقابل غوغائية الدعاة الذين تحيزوا دائما لفقه القسوة وللتقليد الأعمى وتقليد التقليد وحفظ المتون والحواشي والعنعنات.
ولأن مشكلة المسلمين هي مشكلة قراءة وتأويل حسب السياق وضرورات الوقت، فقد قرأ القرآن في شموليته من منطلق اعتبار الدين خطاب خير وكرامة، لا خطاب تدمير وتخريب وقتل وانتقام، وحاول إضفاء قدر من الانسجام على قراءته القرآن بالقرآن، وفق المنطق الإنسي المشار إليه، فاتخذ موقفا حازما من الأحاديث المروية والمتراكمة عبر قرون من الرواية الشفوية التي تخللتها خلافات وأحقاد وحروب وصراعات ومصالح لا حصر لها، انعكست كلها على صورة الدين وموقعه في الدولة، وعلى وضعية الإنسان المسلم التي سرعان ما تحولت إلى انحباس حضاري دام لأزيد من ألف عام.
لذا عمل على إعطاء الدين مضمونا سمحا، فأخرجه من ثقافة البداوة والغزو والاسترقاق، وفتح نوافذه على نسمات الأزمنة الحديثة، حتى يجد فيه الناس أجوبة حقيقية لمشاكلهم، ويتخلصوا من فتاوى العار التي تعكس أزمة عقول علاها الصدأ والغبار.
إن منطق شحرور هو التالي: إذا كان فقه الخلافة الرجعي يدفع المسلم في عصرنا إما إلى التطرف والغلو أو إلى الخروج من الدين والتحرر منه كلية، فإن ثمة قراءة تسمح باحترام الدين واحترام قيم العصر معا، لكن لا بد من تغيير جذري في قواعد التفكير والقراءة.
لقد عمل محمد شحرور من خلال مُجمل إنتاجاته الفكريةعلى إخراج الإسلام من مأزق حضاري أوقعته فيه حركات الإسلام السياسي باسم “الصحوة”، ما عرّض الدين الإسلامي لنقد شديد بسبب انغلاق “أهل الاختصاص” ، ومحدودية نظرهم، وعقم منهجهم في التفكير، حيث لم يستطيعوا تقديم قراءات تجديدية تجيب على الأسئلة الكبرى لعصرنا، وخاصة منها ما يتعلق بنتائج العلوم، وبالتحولات المجتمعية الكبرى، وبمفهوم المواطنة وعلاقة الدولة بالدين وموقع الفرد بينهما، كما أن الاجتهادات الهامة التي أبدعتها نخبة محدودة من المفكرين التنويريين سرعان ما تمّ الالتفاف عليها من طرف جمهور الفقهاء المقلدين من حُراس قلعة الفقه القديم، ما طرح بإلحاح ضرورة اجتهاد جريئ من داخل المنظومة الدينية نفسها.
إن الراحلين عن هذا العالم ثلاثة:
1) الذين يتركون فيه أثرا لا يبلى حتى كأنهم باقون أبد الدهر.
2) الذين يعتبرونه مجرد معبر فيمكثون في انتظار المغادرة، حتى وهم لا دليل لديهم على وجود حياة أخرى غير هذه التي لم يحسنوا استغلالها.
3) المحتالون النصّابون الذين يتحدثون عن “الآخرة” جاعلين منها سجلا تجاريا لاستغفال البسطاء، واستدرار الأموال للنفخ في أرصدتهم البنكية.
ينتمي محمد شحرور إلى الفرقة الأولى، وينتمي الذين لم يعرفوه ولم يفهموه إلى العينة الثانية، بينما ينتمي شاتموه ولاعنوه إلى العينة الثالثة، والنتيجة تعرفونها، سيخلد ذكر شحرور وسينسى التاريخ أسماه شاتميه، لأن الكراهية لا تصنع التاريخ.