زنقة 20 . الرباط
كشفت وثائق عسكرية سرّية إسرائيلية تعود لسنة 1951، أن الجدل الدائر حول السياسة العنصرية التي تنتهجها المؤسسة العسكرية الاسرائيلية تجاه المزراحيين في جيشها (اليهود القادمين أو المنحدرين من سلالة يهود الشرق الأوسط وشمال افريقيا) ليس وليد اليوم، وأن النخب العسكرية التي كانت تطالب بوقف التمييز العنصري منذ السنوات الأولى لتأسيس الجيش، وتقدمت باقتراحات لمكافحته، قابلتها القيادة العليا بالتجاهل والرفض.
كما كشفت وثيقة أخرى، مسرّبة عن لقاء جمع رئيس الوزراء الأسبق، «ديفيد بن غوريون»، مع قيادات عسكرية سنة 1950، عن حجم الكره الذي يكنه لليهود المغاربة الذين التحقوا بجيشه، وللثقافة اليهودية المغربية بشكل عام.
وذكر المؤرخ الاسرائيلي «شاي هازكاني»، في مقال له بعنوان «التاريخ المسكوت عنه في «قضية المزراحيين» في جيش الدفاع الاسرائيلي»، نشرته صحيفة «هآرتس» يوم الجمعة الماضي، أن «دراسة عسكرية «سرية»، من 12 صفحة، أنجزها عقيد ممتاز من أصول بريطانية يدعى «عيزرا أروسون»، من خلال معاينته للواقع اليومي لقواته في مواقع عسكرية عديدة، واستشارة ما لا يقل عن إثنى عشر خبيرا ومختصا، كشفت حجم التمييز العنصري الذي يمارس في حق المزراحيين داخل الجيش»، مذكّرا أن «هذه العنصرية تبدو اليوم أمرا عاديا، إلا انها آنذاك كانت مستجدا كبيرا وجب التكتم عنه».
ونقل «شاي هازكاني»، وهو باحث في الدراسات العبرية واليهودية في جامعة نيويورك، مقتطفا من المراسلة التي وجهها «أرونسون»، إلى رئيسه في القيادة العامة، الجنرال «لاسكوف»، عقب انتهاء الدراسة حيث قال «من خلال فحص سريع للبنية الاجتماعية في إسرائيل يتضح أن هذه الجماعة (يقصد بذلك المزراحيين)، لأسباب اقتصادية وغيرها، تعاني من الإقصاء والتهميش.
وهذا ينطبق على «السكان القدامى» وعلى المهاجرين الجدد على حد سواء، ويكفي أن نلقي نظرة على لائحة الضباط السامين وكبار المسؤولين، للتأكد من ذلك. من خلال الأحاديث العامة ومقالات الصحف والمسوحات التي يجريها معهد الأبحاث الاجتماعية التطبيقية (القدس)، يتضح أن هناك توجهاً، في جميع أنحاء البلاد، نحو معاملة اليهود المشرقيين بازدراء.
ولا شك أنه أقل جلاءًا في أوساط اليهود القادمين من ألمانيا وأروبا الوسطى، إلا أن ثمة، بشكل عام، شعوراً بالتفوق على “السود”».
وحتى يقرب القارئ من الصورة التي كان عليها الوضع داخل الجيش حينها، لما كانت نسبة المزراحيين المجندين في الجيش تفوق بشكل كبير نسبة «الاشكيناز» والفصائل الاخرى، أورد المؤرخ مقطعا من خطاب ألقاه «بن غوريون»، رئيس الوزراء آنذاك، بحضرة القيادة العليا للجيش الإسرائيلي شهر أبريل 1950، قدم فيه وصفةً للسياسة التي يجب على الضباط أن يتبعوها عند إدماج المجندين الجدد، حيث قال: «أرى أن جمع شمل المنفيين يجلب لنا الكثير من الرعاع» على حد تعبيره.
ثم تابع قائلا «إن أسس مهنة الجندية تقتضي منا إذابة هؤلاء الرعاع في بوتقة انصهار، وإعادة تكوينهم وفق قالب إنساني، ثم يهودي، ثم إسرائيلي، وبعد ذلك عسكري».
وبعبارات أقرب إلى الإزدراء منه إلى السخرية أردف أن: «أولى الأولويات في تكوين الشباب القادمين من تلك البلدان، قبل أي تدريب عسكري، ليس السرقة، أو القبض على فتاة عربية واغتصابها وقتلها، بل إن أول مايجب أن يتعلموه هو الجلوس في المرحاض كأي إنسان، وكيفية الاستحمام».
ثم أضاف «ما عدا ذلك، فإن أي تكوين أو تدريب عسكري لا قيمة له. ذلك أن (اليهود) القادمين من المغرب لم تطأ أقدامهم مدرسة، وعاداتهم هي عادات العرب، يحبون زوجاتهم ومع ذلك يضربونهن. ولحدود الساعة لا أرى أي تغيير في طباعهم، بل ربما يجب أن ننتظر الجيل الثالث لكي تظهر أولى بوادر التغيير.
إن اليهود المغاربة أخذوا الكثير عن المغاربة العرب، ولا أعتقد أن هناك شيئا مهماً يمكن أن نتعلمه من المغاربة العرب.
إن الثقافة المغربية غير مرغوب فيها هنا» وبخصوص موقف العقيد «أروسون» من هذه السياسة العنصرية، شدّد المؤرخ أنه «في المراسلة التي وجهها إلى القيادة العليا للجيش دافع بشراسة عن المزراحيين، ليس فقط بسبب رفضه للممارسات العنصرية التي تطالهم، بل أيضا بسبب التهديد الذي تشكله على تماسك الجيش الإسرائيلي، والمخاوف من ظهور قوة معارضة في صفوفه».
وانطلق «أروسون» في مرافعته ضد العنصرية من ملاحظتين، أولاهما أن جل علماء النفس أثبتوا ان الفوارق التي يروجها دعاة المركزية الإثنية لا أساس لها من الصحة، واستشهد بعدة دراسات أنجزها الباحثون الجامعيون في عصره.
ثانيهما أن التمييز كان يطال المزراحيين خلال مرحلة الإدماج الذي يعتمد معايير تمت بلورتها على مقاس المنظومات التعليمية في أمريكا وأروبا الغربية وبذلك فإنها لا تنصف اليهود القادمين من المناطق الأخرى وقدم ثلاثة مقترحات للتخلص من الميز، وهي أن يتم تدريس تاريخ المزراحيين للفصائل الأخرى لتسهيل التواصل معهم، ومعاقبة المتورطين في الافعال العنصرية باقصى العقوبات.
كما اقترح أن يتم التجنيد والإدماج في الجيش وفق ما يشبه نظام “كوطا” يضمن لجميع الإثنيات الولوج إلى مستويات الجيش المختلفة، عوض أن تحتكر المناصب العليا من طرف اثنية دون أخرى اعترض الجنرال «مان باور» والعقيد «جدعون شوكن» على مقترحات «أروسون» معتبرين أنه «من المستحيل محاربة العنصرية لانها لا توجد فقط في الجيش، بل في باقي مناحي الحياة الاسرائيلية، وان الجيش يجب أن يبنى على قيم غربية في حين ان الاغلبية مشرقيون، وبالتالي فان القيم الغربية في خطر».
إلا أن رد القيادة العليا، وفقا للمؤرخ، جاء أكثر تفصيلا وضمنته في ثلاث صفحات، رفضت فيها بشكل قاطع بعض المقترحات التي تقدم بها «أروسون» وتحفظت على البعض الآخر، وأبرز ما جاء فيها: نفت أن تكون هنالك أية سياسة عنصرية، معتبرة أن المزراحيين «بدائيون»، وأن الميز بينهم وبين الإثنيات الأخرى إنما مرده الى الفروق التي تمتد على مئات السنين بين مستويات الحضارات التي قدموا منها؛ اعترضت على الحلول الادارية من قبيل فرض العقوبات على المتورطين في الأفعال العنصرية على المتورطين.
كما اعترضت على أطروحة علماء النفس الذين رأوا أن ليس هناك فروقا بين المزراحيين والفصائل الأخرى؛ قبلت فكرة تعليم تاريخ المزراحيين وثقافتهم، إلا أنها تحفظت على كون هذا الإجراء سيخلق نوعا من الغرور لدى هذه الفئة، وسوف يؤول وكانه امتياز لها على حساب الفئات الأخرى.
حيث اعترضت على الإدماج والتكوين حسب الوحدات العرقية (الكوطا)، واعتبرت ان هذا الإجراء لن يزيدهم إلا عزلة على عزلتهم، وسيعود بالضرر على كفاءة الجيش؛ وفي الأخير أكدت أن الحل يكمن في «استمرار الميز الايجابي، ومحاولة فهم الخلفية الثقافية، والتكوين الشخصي وأنماط التفكير، والطموحات، العواطف، والتطلعات الاجتماعية لهذه الفئة فهما عميقا”.
واستطردت “نحن في حاجة الى معرفة ماذا يتعلمون، وإلى ماذا يتطلعون، وكيف يفكرون وكيف يشعرون، وكيف يتعاملون مع المعدات، بما فيها المعدات العسكرية». واختتم المؤرخ مقالته بالإشارة إلى أنه «على هذه الأسس أعلنت بدء دراسة جديدة، لم يكتب لها أن ترى النور. وظلت العنصرية قائمة في صفوف الجيش الاسرائيلي إلى يوم الناس هذا».
رأي اليوم