الحنين المقدس
بقلم : عبد الصمد بنشريف
جسمي هنا، وأصدائي هناك، بيني وبين حضن أمي مسافة من الحنين المقدس، وجمهرة من فواكه التعب الراديكالي والكلام السرمدي المسقي بماء الشرارة الأصيلة لتلاحم الجنين بالرحم، ودموع العين بهزات الصدمة وارتجاجات الجسد المفتون بالندى ونوار اللوز.
ألبستني أمي ملامحها الحجرية، ورشتني بحليبها ذي الطعم القروي، وشحت جبهتي بدعاء يقصف الأذى إن ظهر، ويبعد العفاريت آلاف الأميال، ودست في تجاويف ذاكرتي ألف باء الرفض للذل والمهازل. لقحتني بلهيب شتائمها التي كانت تتطاير من فمها المشتعل، عندما كانت تصفعها صرخات الجوع الصادرة عن أجسام صنعتها هي. إذ يتملكها الذهول لفتح معبر للفرح في جغرافية حزينة.
لماذا تتظاهر الأم بالفرح أمام فلذات أكبادها ساعة الألم؟
لك المجد يا عقرب الزمن الذي لا يكل من الدوران، بذرتني خشونة في تربة قريتنا الآهلة بالسحنات المرقشة بمحمول واقع الحال. ولوحت بي خرقة للإنذارات المبكرة، ورغبة مفتوحة أبوابها لاستقبال صليل الكلمات المصادرة، واحتضان نداءات الأرض المطالبة بروعة المطر وسموق الأشجار وأمل الصغار.
كانت أمي كتلة مقاومة، وامتداد غابوي يدافع عن حق الماء في الوصول إلى مصبه، ليطلع من بطن الأرض قمح يرتب إيقاع العيش، ويبث أهازيج الفتوة والركض الجامح في جنان العسل ومزارع الضحكات المفتولة كعضلات الجبال الشاهدة على نضوب الآبار التي حفرتها سواعد كانت شهيدة للحفر، وحين تدفق الماء معلنا عن ألقه، زغردت النساء وكانت معهن أمي غارقة في طقسها الاحتفالي، مبتهجة برؤية فضاء الماء الآسر.
كان الماء سيد القرية والجبال، مات الماء، وانسلخ عن التراب والأفواه، احتدم العطش، استوطن الحزن مدارات الفرح، لكن وجه أمي وخصوبة أمي وعنادها الأخاذ سيظل مصدرا للارتواء.