بقلم : أحمد عصيد
تداول المواطنون المغاربة مع الدخول المدرسي والاجتماعي الحالي، وهم بصدد متابعة النقاش حول لغات التدريس، صورا غزيرة لمدارس آيلة للسقوط، وأخرى خربة تماما بلا سقوف ولا جدران، وغيرها تحولت إلى إصطبلات للبهائم، مشاهد تحزّ في النفس وتدمي القلب، لأنها تعكس الحالة المزرية لبلدنا، ما دامت المدرسة هي التي تعكس صورة البلد ومستوى أهله وكذا مدى مصداقية الدولة والمؤسسات، إذ يعدّ التعليم المعيار الأول المعتمد في بلدان العالم لتقييم سياسة الدولة ومعرفة مدى اهتمامها بمواطنيها وتفكيرها في مستقبلهم، وهو ما يفسر أن الدول الراقية التي تحتل الصفوف الأولى في جودة الحياة والرفاهية والكرامة هي نفسها التي تحتل الرتب الأولى في جودة التعليم.
ولا تشمل هذه الأوضاع المزرية قطاع التعليم وحده بل المستشفيات أيضا التي صارت في حالة باعثة على اليأس، إضافة إلى قطاع المقاولة الذي تضرر في الآونة الأخيرة إلى درجة أن ما يقرب من 5955 مقاولة أعلنت إفلاسها في سنة واحدة وأوصدت أبوابها، بسبب الاحتكار وانسداد الآفاق وكثرة الفساد والبيروقراطية وعدم القدرة على أداء الضرائب.
في خضم هذا الواقع البئيس يبدو النشاط الديني المتعلق ببناء المساجد هو المجال الوحيد الذي يعرف ازدهارا كبيرا، بالنظر إلى عدد المساجد التي تُبنى سنويا بمواصفات باذخة، حيث يُستجلب الرخام الأكثر غلاء والثريات البلورية وأنواع الزليج والأفرشة الفاخرة، والغريب أن الكثير من المساجد تبنى في أحياء فقيرة ليس فيها أي مقوم من مقومات الحياة الكريمة، فتجد مسجدا فخما بجوار حيّ من أحياء الصفيح التي يعيش فيها الناس سابحين في الأوحال والأوساخ يوميا، ولا أحد يتساءل عن هذه المفارقة الخطيرة، مما يدلّ على مقدار رخص الإنسان وانهيار قيمته في مجتمعنا، وكأنّ بناة المساجد يقولون للسكان الفقراء: “لم تحظوا بحياة كريمة في الدنيا الفانية فلا أقل من أن تفوزوا بالآخرة”.
ورغم أن المساجد وأماكن العبادة ليست معيارا معتمدا لقياس مقدار التقدم والازدهار عكس المدرسة والمستشفى والمعمل والمقاولة الاقتصادية، إلا أنك تجد الناس يتباهون بالمساجد ولا يكترثون لحالة المدارس والمستشفيات والمعامل ، حيث يبدو لهم منظر مدرسة مهجورة أو مستشفى خرِبٍ أمرا عاديا لا يثير لديهم أية مشاعر سلبية.
وبجانب حرصهم على نظافة المساجد وجمالها، تتزايد مظاهر التلوث البيئي التي تدلّ على عدم اكتراث الناس بنظافة الفضاء العام الذي يلتقون فيه جميعا، فرمي الأزبال في الشارع صار أمرا عاديا، ومن الأمور التي طالما صدمتني منظر رمي الأزبال من السيارات الفارهة التي يتجاوز ثمنها الخمسين مليونا، حيث يدرك من يشاهد تلك الظواهر بأن الأمر لا يتعلق بالفقر أو بالأمية، بل بثقافة صارت بالتدريج ذهنية مستحكمة.
فالمواطنون لا يدركون معنى أن الفضاء العام ملك للجميع، بل يعتبرونه ملكا للسلطة التي لا يشعرون بأنها تخدمهم، كما أنهم يتسابقون على تمويل بناء المساجد بالعمل الإحساني لأنهم يحلمون بقصور في الجنة، وأتذكر صديقي الأستاذ محمد المْسيّح عندما قال في نبرة ساخرة، وهو يتحدث عن مدرسة لم تُبن في قريته بناحية مكناس، حيث فضّل الناس بناء مسجد جديد: “كان ينبغي لبعض النابغين الذين اصطنعوا الأحاديث ونسبوها إلى النبي محمد بعد 200 سنة من وفاته أن يضيفوا من باب الكذب الأبيض :”من بنى مدرسة أو مستشفى في الدنيا بنى الله له قصرًا في الجنة“.
هذه العقلية الأنانية التي تفضل التفكير في قصور في الجنة على التفكير في مصير أطفال البلد، قد أدت إلى وقائع أشبه بالنكات، حيث تجد أحيانا صوامع متجاورة جنبا إلى جنب لمساجد عديدة تسابق على بنائها في نفس الحيّ محسنون أثرياء شبعوا من ملذات الدنيا وشهواتها، ولم يبق لهم إلا الفوز بالآخرة.
وتساهم الدولة المغربية في بناء المساجد بميزانية باهظة جدا، تتجاوز بكثيرة ميزانية قطاع الثقافة، وقد وضعت لأجل ذلك خطة أطلقت عليها “الخطة الوطنية للارتقاء بالمساجد بمختلف عمالات وأقاليم المملكة”، وتخبرنا الوزارة الوصية بأن بناء وإصلاح هذه المساجد يتطلب ملايير الدراهم، حيث أن معدل بناء المساجد كل عام هو ما بين 160 و 200 مسجد، وهو ما يوازي تقريبا معدل المدارس المغلقة كل سنة.
ولعل أهم اكتتاب عرفه المغرب منذ الاستقلال هو الذي أرغمت فيه السلطة جميع المغاربة من ذوي الدخل على الإسهام في بناء مسجد ضخم بالدار البيضاء، قيل إنه أريد له أن يكون “أكبر مسجد بإفريقيا”، ولست أدري ما جدوى أن نحتل الرتبة الأولى بمسجد إذا كنا نحتل رتبا مخجلة في التعليم والصحة والحكامة والتدبير المالي ودمقرطة الإدارة ومعاملة النساء والأطفال، هذا مع العلم أن ضرائب المواطنين ينبغي أن توجه أساسا للخدمات ذات الأولوية وهي قطاعا التعليم والصحة.
غير أن بصيصا من نور الوعي المواطن بدأ يتفتق في ذهن بعض المواطنين هنا وهناك، حيث رأينا لأول مرة مجموعة كبيرة من السكان بعثوا بعريضة إلى الديوان الملكي يطالبون فيها الملك بوقف بناء مسجد بـ 38 مليون درهم، أي ما يقرب من أربعة ملايير، في حي فقير لا يتوفر على مدرسة ولا مستوصف ولا أي من المصالح الضرورية للمواطنين، سوى السكن العشواني، وهم يقولون: لا نريد مسجدا، سنصلي في بيوتنا، لكننا لا نستطيع العلاج والدراسة إلا في المؤسسات الخاصة بذلك”.
لقد عرفت أوروبا في عصر ظلماتها نفس الظاهرة، فبجانب الأحياء الفقيرة الوسخة والسكان البؤساء الغارقين في الأوبئة والأمراض والجهل ، كان رجال الدين والملوك يحرصون على بناء كنائس وكتدرائيات في غاية الفخامة والأبهة، دون أن ينسوا أن ينحتوا فوق أسوارها وعلى أبوابها صورا بعضها مرعب لإشاعة الخوف، وبعضها مخدر لنفوس البؤساء الخاضعين للإقطاعيين ولغطرسة الأمراء الدمويين.
الفرق الوحيد بين كنائسهم ومساجدنا هو أن تلك الكنائس القديمة تدرّ اليوم على الدول الأوروبية من عائدات السياحة ملايير الأورو سنويا، حيث يزورها السياح للتعرف على عقلية أجدادهم قبل ألف عام، بينما لا تنتج مساجدنا شيئا سوى الكلام، الذي يلقيه خطباء تقول وزارة الأوقاف في إحصاء رسمي بأن نسبة 87 في المائة منهم ليست لهم أية شواهد دراسية عليا.
إن استمرار وتيرة بناء المساجد مع إغلاق المدارس والتخلي عن المستوصفات والمستشفيات وإغلاق المقاولات والمعامل والشركات سيجعلنا مستقبلا أمام الوضعية التالية: مساجد براقة وفاخرة مكتظة بآلاف المواطنين الذين يعانون من البطالة ومن الجهل، والنتيجة تعرفونها.