على هامش “ضيف الأولى”: هم أولاء أعواد كبريت فوق خزان البارود

بقلم  : محمد انفي

تداعت بعض الأصوات والأقلام (التي لا تفهم ولا تعلم من الدين إلا ما تَحجَّر به عقلهم وتنمَّط به وعيهم وتجمَّد به فكرهم واخشوشنت به لحاهم …فاعتقدوا أنهم وحدهم يملكون حقيقة الدين والدنيا)، تداعت هذه الأصوات على المثل الجاهلي “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” للهجوم والتهجم على الأستاذ “إدريس لشكر”، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لكونه اعتمد، خلال برنامج “ضيف الأولى”، على هذا المثل ليبرز، من خلاله وفي السياق (أليس لكل مقام مقال؟) الذي كان يتحدث فيه، مدى استقالة الأطراف الحكومية الأخرى أمام الحزب الأغلبي. وقد اختار هذه المقولة لينتقد، من خلالها، مواقف الأحزاب المشاركة في الحكومة (وبالأخص حزب التقدم والاشتراكية، ذو المرجعية الحداثية) التي تصفق لكل القرارات التي يتخذها “بنكيران”، رغم ما فيها من تناقض مع القناعات الإيديولوجية لتلك الأحزاب (أو على الأقل البعض منها) ورغم ما لها من تبعات اقتصادية واجتماعية، تتضرر منها، في المقام الأول، الفئات الفقيرة والمتوسطة التي يدَّعون كلهم (وفي مقدمتهم الحزب الأغلبي) بأنهم يدافعون عنها.

وبمعنى آخر، فقد أراد الأستاذ “لشكر”، من خلال المقولة الجاهلية، أن يستدل على شذوذ حكومة بنكيران التي تتصرف مكوناتها  بمنطق الأخلاق الجاهلية التي تتعصب للعشيرة سواء عن حق أو عن باطل. وقد أراد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، من خلال هذا الدفع، الرد على الذين يتحدثون عن ضعف المعارضة، مؤكدا أن الضعف يتمثل ليس في المعارضة، بل  في مكونات الأغلبية التي تعمل بمنطق المثل الجاهلي السالف الذكر، فتنتصر لقرارات “بنكيران”، مهما كانت خطورتها ومهما كان عدم وجاهتها.

والأستاذ “لشكر”، ككل المتعلمين المغاربة، لا يجهل الحديث النبوي الشريف؛ لكن استعمال هذا الحديث لا يستقيم والسياق الذي كان يتحدث فيه. لذلك، اختار المثل الجاهلي (“انصر أخاك ظالما أو مظلوما”)الذي لا يشكل إلا جزءا من الحديث النبوي الذي يريد البعض(جهلا أو تجاهلا) أن يختصره في منطوق هذا المثل، وكأن هذا الأخير لم يعد له وجود خارج الحديث النبوي الشريف أو كأن الحديث النبوي لم يعتمد عليه في بناء المعنى المراد منه. وفي هذا تعسف واضح- من طرف غلاة التقليد والجمود والانغلاق والجهل والجهالة…الذين هم بلا حِلم ولا علم- على الحديث النبوي نفسه قبل أن يكون تعسفا وتحاملا على كلام الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي.

وإذا كان الحديث النبوي الشريف، المروي على الشكل التالي: “حدثنا مسدد حدثنا معتمر عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تأخذ فوق يديه”(صحيح البخاري- كتاب المظالم)، يعني العمل على منع الظلم والكف عنه، فالمثل الجاهلي يراد به ظاهره أي المعنى اللفظي؛ وهو الحَميَّة والعصبية. وهذا ما قصده “لشكر” بالإحالة على هذا المثل في حديثه عن مكونات الحكومة التي لا تبدي أية معارضة لما يأتيه “بنكيران” من أقوال وأفعال تسيء إلى مؤسسات البلاد وصورتها وإلى مكتسبات الشعب المغربي (التي قدم من أجلها تضحيات جسام)،السياسية والثقافية والاجتماعية والحقوقية وغيرها.

ولتحريف الكلام عن مواضعه وتمييع النقاش، تم التركيز على هذا المثل مع إخراجه من سياق الموضوع، على طريقة “بنكيران” المعهودة (أنظر مقالنا “بنكيران وآفة الخروج عن الموضوع”، جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، 30 مارس 2015 ). وقد تجند لهذا الغرض “الجيش” الإعلامي والدعوي للحزب الأغلبي. غير أن ما كتب وما قيل في هذا الشأن، يقف شاهدا، من جهة، على تهافت المدافعين عن حزب العدالة والتنمية والمؤيدين لتوظيف الدين في السياسة، ومن جهة أخرى، يقف شاهدا على محدودية زادهم المعرفي وعلى ضحالة فكرهم وتفكيرهم.

لقد كشفت، بالفعل، ردود الأفعال المتشنجة التي أعقبت تلك الإحالة على المثل الجاهلي (لنتذكر، بالمناسبة، الصخب اللفظي والضجة الإعلامية التي أحدثها بعض الغوغاء يوم طالب  الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي بفتح حوار حول مسألة الإرث، موجِّها خطابه إلى الجهات المختصة من علماء ورجال القانون والمفكرين، الخ؛ وقد وصل الأمر إلى حد تكفيره، كما هو الشأن اليوم، أيضا)، كشفت خواء فكريا مهولا وفقرا ثقافيا مذقعا وضعفا منهجيا مخجلا وجهلا مركبا مخيفا…سواء عند الانكشارية “المصباحية” (أي الكتائب المجندة من قبل “البيجيدي”في المواقع الإليكترونية والاجتماعية لتلميع صورة مسؤوليه والتهجم على خصومه) أو عند من سماهم “رشيد نيني” بجيوش “الخدم والتبنديق الإعلامي”، أو عند من يعتبرون أنفسهم وعَّاظا أو فقهاء أو علماء حتى (وهم انكشارية مصباحية من نوع خاص).

وقد أبرز التوضيح الذي قدمه الأستاذ “لشكر” عن مرجعية المثل الذي اعتمده في استشهاده وعن الحيثيات المرتبطة بالسياق الذي كان يتحدث فيه، أبرز شيئين أساسيين: الشيء الأول هو أنه أوسع ثقافة وأكثر احتراما للمتن النبوي من الذين يزعمون أنهم يدافعون عن الحديث الشريف وعن الدين الإسلامي، الخ؛ الشيء الثاني هو أنه- رغم كون تخصصه بعيدا كل البعد عن المجال الديني (هو رجل قانون وقائد سياسي)- “أفقه”، في بعض المسائل الدينية، ليس فقط من الانكشارية التي يوظفها الحزب الأغلبي للهجوم على خصومه، بل حتى من أولائك الذين يزعمون أنهم فقهاء وعلماء ويملئون، بهذه الصفة، بعض الفضاءات بالنعيق والزعيق.

ويكفي أن تستمع لبعضهم، لتدرك إلى أي حد يغيب العقل والمنطق والحكمة والتفكير السليم في ما يقولونه. ومن كان هذا حاله، فما ذا يمكن أن تنتظر منه غير تكفير المخالفين وزندقة المجددين والمجتهدين؟ يقول المثل: “فاقد الشيء لا يعطيه”. ومن قلَّ (أو اضمحل) زاده الثقافي، انغلق فكره وتحجَّر. لذلك، لا نستغرب الخلط الذي حصل بين الحديث النبوي الشريف والمثل الجاهلي.

ها قد عرفنا مبلغ هؤلاء من العلم؛ فما نصيبهم من الحِلم؟ لن نتحدث عن الانكشارية الإليكترونية (أو الجيش الإليكتروني) لأنهم ينتمون للعالم الافتراضي؛ لكن “النهاري” و”أبا النعيم” (عفوا الجحيم) وغيرهما، نعرف ملامح وجوههم (المتجهِّمة في الغالب) ونعرف كيف تنتفخ أوداجهم وهم يتحدثون ونعرف حركاتهم  ونبرات صوتهم ونعرف طريقة كلامهم ونعرف أفكارهم وغير ذلك من العناصر المكونة لشخصيتهم.

وتجعلنا كل العناصر التي ذكرنها، نتساءل: هل من الممكن أن نجد شيئا من الحلم عند هؤلاء؟ وقبل الجواب، لنسأل عن معنى الحلم (بكسر الحاء وسكون اللام الموالية).

الحِلم يعني، في المعجم، العقل ويعني الأناة وضبط النفس مع قدرة وقوة. والمتصف بالحلم يسمى حليما أي متسامحا وذا صفح وعفو. ويمكن أن نذهب بعيدا ونفكر في الجدال بالحسنى (“وجادلهم بالتي هي أحسن”). فهل نجد شيئا من هذا عند الذين اعتقدوا أنهم قد ضبطوا “لشكر” في حالة تلبس فيما يخص المرجعية الدينية، وبالأخص، في سياقنا الحالي، ما يتعلق بالحديث النبوي الشريف؟ وهل نجد شيئا من هذا عند من يُقوِّل الغير ما لم يقله لتأليب العامة والغوغاء عليه، كما فعل، مثلا، “النهاري” مع المثل الذي استند عليه الأستاذ “لشكر” خلال البرنامج التلفزيوني الذي أشرنا إليه آنفا؟ وهل…؟ وهل…؟

ومن المفارقات التي يجب تسجيلها، بهذه المناسبة، وبها نختم هذه المقالة، أن بلادنا،  في الوقت الذي أصبحت تجربتها في التكوين الديني منتوجا قابلا للتصدير(حيث تقاطرت على المغرب طلبات في هذا الشأن من دول متعددة)، تصر، من داخلها، بعض الجهات على العمل على تقويض ما ميز هذه البلاد – على مدى قرون – من وسطية واعتدال؛ وذلك بشحن عقول شبابنا بأشياء تتنافى والثقافة الدينية المغربية الأصيلة. وهذا ما جعل المغرب يصدر، أيضا للأسف الشديد، الدواعش إلى بلاد العراق والشام باسم الجهاد (انظر مقالنا عن “التطرف والإرهاب والداعشية بالمغرب”، موقع “إكسير”). ولذلك، نعتبر أن كل من يوظف الدين لأي هدف كان، إنما يلعب بالنار. ولهذا السبب، نعتبرانكشارية المصباح وفقهاء الظلام والانغلاق أعواد كبريت فوق خزان بارود. وبهذا المعنى، فهم يهددون، بوعي أو بدونه، استقرار البلاد بسبب تهديدهم للأمن الروحي للمغاربة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد